د. سَيْف المعمري
قبل أن يُودِّعنا العام الجامعي الحالي، تُقدِّم جامعة السلطان قابوس لأكاديميِّيها وطلابِّها فُرصة تاريخية -في لحظة استثنائية- للقاء والاستماع إلى أحد أهم الرُّؤساء الملهمين والمؤثِّرين على مستوى العالم في مجال التنمية، مهاتير محمد، في الوقت الذي ظنَّ الجميع من أهل الجامعة أنَّ إدارتها تُريد أن توجِّه أنظارهم إلى قضايا فكرية دينية، من خلال استضافة أكثر من شخصية إسلامية هذا العام، في مُحاضرات جماهيرية غفيرة، عُقِدَت في المسرح المفتوح، دون أنْ تُفْسِح المجالَ للاحتكاك بمنظورات سياسية واقتصادية وثقافية يُمثِّلها أفرادٌ لهم أعمالهم المؤثرة على المستوى الإقليمي والعالمي.
وذلك من أجل الاستجابة للنقاشات حول مُعضلة التنمية في المنطقة التي قاد إليها انخفاض أسعار النفط؛ مما دفع كلَّ الحكومات في منطقة الخليج إلى إعلان حالة التقشف، التي طالت المؤسسات التعليمية، وفي مقدمتها الجامعات التي كانت تعيش كغيرها من المؤسسات في سُبَات، مُعتمدة على ما تجود به الحكومات من فوائض نفطية، بدلاً من أن تنمِّي مواردها واستقلاليتها. لكنْ بدلا من أن تكون هذه المؤسسات قنطرة لعبور الأفكار الإصلاحية الإستراتيجية التقدُّمية لمختلف المؤسسات، وجدتْ نفسها تُعَانِي ضَعْفَ التخطيط الإستراتيجي المستقبلي الذي يحميها من تأزم الأوضاع الاقتصادية، ويُغْرِقها في تقشُّف يعصفُ بالإنجازات التي حقَّقتها خلال العقود الماضية؛ فما عَسَاه مهاتير محمد أنْ يقول لخمسة آلاف من الأكاديميين والطلاب الذين سيحتشدون في القاعة الكبرى التي قلَّما وَقَف على منصتها شخصية بوزن مهاتير محمد بعد افتتاح مولانا صاحب الجلالة السلطان المعظم لها في 18 ديسمبر 2010م؟!!
لأوَّل مرَّة لن يتمكَّن مُقدِّم مُحاضرة من تعريف ضيفه؛ فما عساه أن يقول عنه والحضور جميعهم يعرفونه، ويدركون أنه أحدث نقلة نوعية في تاريخ بلد كان خارج دائرة التاريخ، يعاني الفقر والتمزُّق، ويسأل سكانه كلَّ يوم لماذا يتقدَّم الجيران من حولنا من أمثال اليابان فيما نحن غارقون في الفقر والتأخر؟ ما الذي ينقصنا ونحن أمة لا تقل في سكانها عن الأمم الأخرى؟ حتى جاء مهاتير وزير التعليم في حقبة السبعينيات، والطبيب الذي درس ليكون طبيباً، ليحسم تلك الأسئلة، كان يومها لا يُدرك أنه سيكون المحرك لتغيير اقتصادي واجتماعي يقود بلده الضعيف ليكون نمرًا مفترساً، يملك أنيابًا ليست من المطاط والقصدير كما كان فالسابق، وإنما أنياباً من حديد؛ حيث أصبحت بلده دولة صناعية مُتقدِّمة، فكيف حقَّق ذلك خلال عشرين عاما -هي فترة رئاسته لماليزيا (1981-2003)- هذا هو السؤال الذي من المتوقع أنْ يُجِيْب عليه مهاتير أهل الجامعة؛ لأنَّ المنظِّمين حددوا "التخطيط الإستراتجي" عُنواناً لمحاضرته. والسؤال: هل سيلتقط الجميع الرسالة التي سيبعثها لنا؟ وماليزيا نعرفها أكثر مما نعرف بلدنا، ونزورها أكثر مما نزور مناطقنا، ونتحدث عنها أكثر مما نتحدث عن خططنا؟ وتؤمها الوفود الرسمية بمختلف مستوياتها الكبيرة أو الصغيرة، وزراء ووكلاء اقتصاديين، وأكاديميين وطلابا مبتعثين ومواطنين عاديين للسياحة منذ ما يزيد على العشرين عاما؛ أي قبل أن توضع رؤية "عمان 2020"، وقبل أن يتخرج كل هؤلاء الذين أصبحوا يقودون كثيرًا من المؤسسات والكليات واللجان التي تخطِّط كلَّ يوم للغد، ولكنها لا تصل إلى الغد الذي رسمته، فلماذا لم نفهم حتى اليوم الماليزيين؟ هل نحن أقل منهم ذكاء؟ هل نعاني من صعوبات في التعلم في التخطيط والتنفيذ الإستراتيجيين؟ هل هذه الصعوبات وراء دعوة مهاتير الرأس المفكِّر لكل ما جَرَى، لكي يُساعدنا على فهم ما لم نفهم، وعلى تدبُّر ما لم نتدبر؟!
ما عَسَاه مهاتير أنْ يقول لنا عن ماليزيا؟ ربما لا يصحُّ أنْ يُطرح السؤال بهذه الصيغة، إنما يجب أن يُطرح بصيغة أخرى هي: ما الذي سنؤمن به نحن مما سيقوله مهاتير لنا، والإيمان هو القوة الدافعة للفعل والتنفيذ، إن قال لنا افعلوا ببساطة مثلما فعلت، فهل نحن مستعدون كنُخب أكاديمية واقتصادية وبيروقراطية على أنْ نُعِيْد بناء المستقبل بشراكة يكون هدفها عُمان أولاً، أي الصالح العام؛ وذلك سيتطلب تضحيات كبيرة جدًّا، ولكن لغاية سامية، فلا أحد يكره التقدُّم إلا من لا يحب وطنه، ولا أحد يُعِيْق التنمية الحقيقية إلا من لا يُحب وطنه، ولا أحد يُهدر فرصَ الاستفادة من الكفاءات البشرية إلا من لا يُحب وطنه، ولا أحد يَضَع في أماكن صُنع القرار من لا يصلُح لها إلا من لا يُحب وطنه؛ لأنَّ الذين يُحبون أوطانهم يكونون وقوداً لها، فلكي تشتعل تقدما وتنمية لابد أن يشتعل الجميع عملاً وإخلاصا، وهذا أحد الدروس التي آمن بها مهاتير.
سيقول لنا مهاتير عبارته المهمة التي استخلصها من تجاربه وتأملاته، وطبَّقها فأحدث النقلة النوعية في ماليزيا "انظروا شرقاً"، أي أنَّ النموذجَ الحضاريَّ الناجح قد لا يكون غربيا فقط إنَّما شرقياً قائما على قِيَم الشرق، فهل سيقتنع أهل الجامعة وغيرها من المؤسسات بذلك، ونحن نَرْهَن أنفسنا للنموذج الغربي بإرادتنا، ودون أي تفكير أو تمحيص، بل إنَّ هناك عدم وفاق بين خريجي هذا النموذج من المدرسة الأمريكية والبريطانية، هل ستقود مثل هذه الدعوة إلى إحداث تغيير جوهري في التخطيط الإستراتيجي للجامعة، أم أنَّنا لا نملك جرأة تجربة الاستفادة من النماذج الشرقية، هل سنمكن للغتنا وتراثنا ودراستنا العمانية والشرقية، أم أن النخبة البيروقراطية للجامعة أصعب اليوم من أن تتغيَّر، ولا تستطيع التحرُّر من سطوة الانبهار بالغرب؛ إذن، على من سيتلو مهاتير زبورَه في القاعة الكبرى؟
سيقول لنا مهاتير: لا تنظروا إلى أنفسكم في المرآة؛ لأنَّ مشكلتكم هذه المرآة التي تُزيدكم أعجابا بأنفسكم، وإنْ كُنتم مُصرِّين، فاكسروا المرآة قبل أن تنظروا فيها، لكي تتعرفوا إلى الفجوات والثغرات التي تُعانوا منها، وعليكم أنْ لا تضعوا مساحيق لكي تخفوها، اعترفوا بها، فهذه هي الخطوة الأولى للتخطيط الإستراتيجي.. لذا كُنت أتمنَّى أنْ تكون محاضرة مهاتير عن كتابه "المعضلة الملايو" الذي نشره في العام 1970م، والذي انتقد فيه بشدة بني جلدته لاستسلامهم للتهميش، والكسل والتراخي، والسلبية، كان هذا الكتاب أعنف حجر يلقى في مياه ماليزية راكدة، ولم يُتهم يومها مهاتير بأنه كفر بمجتمعه، وشوَّه سُمعة وطنه، ولم يشكل المجتمع يَوْمَها ضده حلفًا بكل سلطاته من أجل زجِّه في السجن، أو تهجيره من ماليزيا، وكان هذا النقد اللاذع ضروريًّا من أجل تحفيز الهمم؛ لأنَّه لا يُمكن تحقيق أي شيء بدون اعتراف؛ علينا أن نعترف بإشكالياتنا من أجل أن نحشد طاقاتنا لمواجهتنا، فالتنمية معركة مقدسة، وحين يكون كل شيء واضحا للجميع، فإنهم لن يترددوا للتضحية بكل شيء في سبيل النصر الذي يتيح للجميع النجاح، فهل سيؤمن الحاضرون بقيمة النقد، والدراسات النقدية، وأولها تلك التي تمس مستقبل الجامعة ودورها في النهوض التنموي بالبلد؛ باعتبارها المؤسسة التعليمية الأكبر والأقوى لوجستيا؟!!
ربما سيقول لنا مهاتير لا فائدة من الخطط الإستراتيجية، وهو الغاية إن لم تتوافر لها الوسائل المناسبة التي تكفل نجاحها.. فهل القرار الذي يُتخذ في العديد من المجالس التي تتكوَّن منها مُختلف المؤسسات -بما فيها الجامعة- الديمقراطي؟! لكن وفي الوقت نفسه فإنَّ هذه الديمقراطية وسيلة غير مأمونة العواقب؛ لأنَّها قد تقود إلى عرقلة الخطط الإستراتيجية وإفشالها، وتراجع التنمية لأنها لا تشكل بطريقة سلمية يكون فيها التعيين لمعايير مختلفة عن متطلبات الغايات، هل سيقتنع أهل الجامعة وغيرهم بالحاجة إلى إحداث تغيير في طرق الإدارة ومجالسها وطرق التعيين فيها من أجل تخفيف إشكاليات الحاضر والمستقبل؟!!
قد يسأل مهاتير الحضور ما هو طموحكم للمستقبل لهذه الجامعة ولهذا البلد؟ لأنَّ الطموح هو ما تعبِّر عنه الإستراتيجيات، هو ما نتحدَّى به الواقع والمعطيات، فهو لا يزال يذكر أن بناء برجي بتروناس كان بسبب موقف الرئيس ريجان، الذي قال له في زيارته لأمريكا في الثمانينيات باستعلاء "انظر أمامك لأكبر برجين في العالم"، فرد عليه بثقة: "سيدي الرئيس، أطمئنك بأنْ سيكون في ماليزيا قريبا ما هو أطول منهما"، وبرَّ بوَعْدِه في العام 1998، وحين سألته صحفية ذات يوم باستفزاز: "إنَّ اقتصاد ماليزيا لا يزال هشا، وهو أقل -أضعف- مما يتورط في بناية ضخمة من حجم برجي بتروناس التوأميْن"، فرد عليها ضاحكاً: "مثلنا مثل المرأة الحسناء القصيرة التي تحتاج إلى لبس الكعب العالي حتى تظهر طويلة"، هل سندرك أن علينا أن ننظر عاليا وبثقة كبيرة، وأن نعلم ذلك لطلابنا في الجامعة، في بيئة تشجع على الابتكار والتفكير والنقد والمغامرة، وأن نكسر أبواب الجامعة لنسمح بأفكار التغيير أن تدخُل بحُريَّة؟!
لا أعرف إنْ كان مهاتير سيختم حديثه بعبارة لها دلالتها في تحقيق التنمية؛ وهي قوله: "عندما أردنا الصلاة توجَّهنا صوب مكة، وعندما أردنا بناء البلاد توجهنا صَوْب اليابان"، ما أُدركه أنَّنا نأمل أنْ يكون وجود مهاتير وحديثه الإستراتيجي، فرصة لإعادة النظر في الخطط الموضوعة، وفي النظرة للمستقبل، وفي استنهاض الكفاءات المختلفة لإحداث نقلة نوعية في الجامعة وبقية المؤسسات؛ لأننا نؤمن أننا مؤهلون أكثر من غيرنا لتقديم نموذج عربي في التنمية والتقدم، ولكن علينا أن نعرف أنفسنا جيدا، وأن نعرف ما نريد، وأن نحدث التغيير المناسب في الوقت المناسب، ولا وقت نحن أحوج فيه للتغيير مثل اليوم.