الإفراط في الوعود وافتعال الصدام ثمّ التراجع عنه يليق برجل جاء لـ"يتنزّه" في المكتب البيضاوي

ترامب في 100 يوم.. "ضجيج بلا طحن"

...
...
...
...
...
...
...

 

الرؤية – هيثم الغيتاوي

"ضجيج بلا طحن"، هكذا يترجّم البعض عنوان واحدة من مسرحيات شكسبير الكوميدية Much Ado About Nothing.. وهو معنى ينطبق تمامًا على أداء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في المائة يوم الأولى من حكمه. هذه الأيام التي وصفها الرجل في خطابه الأخير في بنسلفانيا بأنّها كانت "رحلة رائعة"! وحتى يحافظ على هذه الصورة " الوردية الدعائية"، ركّز على ما أسماها بإنجازاته "إدارتي تنفذ وعودها كل يوم لشعبنا العظيم. نفي بوعد تلو الآخر، وبصراحة الناس سعداء فعلا بذلك". لكن صراحته هذه تتعارض مع إغفاله الإشارة الجادة إلى أي من إخفاقاته التي خلفتها طريقته الدعائية في الإدارة. ويدافع ترامب عن نفسه، مبررًا أي حديث عن إخفاقاته بأنّ "الدستور هو السبب في ذلك". وقال الرئيس في لقاء مع "فوكس نيوز" إنّ القواعد الدستورية الموجودة حاليًا قديمة جدًا، والنظام قاس.. شيء سيء جدًا لمستقبل البلاد".

المبالغة في الوعود وافتعال الصدام ثم التراجع عنه، يليق برجل ظنّ البيت الأبيض موقعا مناسبا لقضاء "عُطلة نهاية العمر" إن جاز التعبير.. رجل "يتنزّه" في المكتب البيضاوي! أراد أن يحقق طموحه بدخول البيت الأبيض بعقلية رجل أعمال غير متوقع التصرفات، لا بعقلية أو أداء رجل سياسي محترف تحركه قناعات أو إيديولوجيات أو مبادئ، من هذه التي يراها ترامب "كلام فارغ"! وفي هذا الإطار يمكننا تفهم تصريحات الرجل حين يقول: "أشعر أنني محبوس في شرنقة، لم أكن أدرك مدى صعوبة وظيفتي الجديدة.. كنت أعشق حياتي السابقة. كانت لديّ أشياء كثيرة جدا.. الآن لديّ عمل أكثر مما كان في حياتي الماضية. كنت أظن أنّ الأمر سيكون أسهل"!

 

ضجيج يُغطي على الوعود

 

حين دخل ترامب البيت الأبيض للمرة الأولى، جدد التأكيد على التزامه بتحقيق عدة وعود في أول 100 يوم من فترة حكمه، أبرزها: توفير 25 مليون وظيفة على الأقل خلال عقد واحد، وخفض الهجرة غير الشرعية، وفرض قيود على مدة البقاء في الكونغرس، وإلغاء برنامج "أوباما كير" للرعاية الطبية، وإلغاء دفع مليارات الدولارات لبرنامج الأمم المتحدة للتغير المناخي واستخدام هذه الأموال لإصلاح البنيات التحتية في الولايات المتحدة، وإعادة التفاوض على اتفاقيات التجارة أو الانسحاب منها، ومن بينها اتفاق التجارة الحرة في أميركا الشمالية، واتفاقية الشراكة عبر الأطلسي، وكان الوعد الأكثر غرابة وتطرفًا: إلغاء كل أمر تنفيذي أصدره الرئيس باراك أوباما!

وأثار ترامب الضجيج من حوله بإصداره قرارا بمنع دخول مواطني 7 دول ذات أغلبية مسلمة، قبل أن يلغيه القضاء، فاضطر إلى إعادة إصداره بصيغة معدلة. وهكذا في كل مرة يلجأ ترامب إلى نظام "الفرمانات الرئاسية"، ليلتف على موافقة الكونجرس على قراراته، فيحدث الجدل ويتصاعد الضجيج الذي يدمنه الرئيس، وليحدث بذلك ما يحدث. وعلى مدى سبعة أعوام، ثار الجمهوريون ضد نظام أوباما للرعاية الصحية، وعندما جاءت الفرصة لتصحيح النظام، طالب التيار المحافظ بإلغاء "أوباما كير" تماماً، لكن الأمر لم ينجح، وكان على بول رايان، المتحدث باسم الحزب الجمهوري في مجلس النواب الاعتراف بالهزيمة.

وحين أطلق ترامب وعده الأشهر"إصدار حظر عام وشامل على دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة الأمريكية"، أثار جدلا طويلا، فتراجع دونالد وقال إنّ "الحظر يشمل الدول المصنفة إرهابية". وقد كشفت صحيفة الاندبندنت البريطانية أنّ الوعد قد رُفع من صفحة ترامب الإلكترونية الرسمية. وهدد ترامب بأنّه سيسجن منافسته هيلاري كلينتون. وقد بدأ الوعد بشكل شعار ردده أتباع الرئيس الأمريكي ترامب وهم ينشدون في تجمعاتهم "اسجنها". وفي المناظرة الرئاسية الثانية قال ترامب مخاطبا هيلاري "سأوجه الادعاء العام الذي يعمل عندي لإصدار أمر بالتحقق من إيميلاتكِ الضائعة... وستكونين في السجن حينها".

وأكد ترامب قدرته على بناء جدار على طول حدود المكسيك لوقف تدفق المهاجرين المتسللين إلى أراضي الولايات المتحدة، واعدا بأن يكون الجدار "جميلا" ومؤكدا أنّ المكسيك ستدفع بنفسها كلفة بنائه. ولأنّ المناطق المعروفة بـ"الشريط الصدئ" شمال الولايات المتحدة هي من حسمت فوز دونالد ترامب، كانت رسالته التي وصفت بالشعبوية هناك هي وعده لهم بعودة الأيام الذهبية للتجارة الحرة، حيث كانت أجور العمل تحلق عاليا، من خلال إلغاء اتفاقيتي الشراكة الأطلسية والتجارة الحرة. وهذه نقطة تفوقه على كلينتون، لكنّه لم يكشف أبدا كيف سيتمكن من إلغاء الاتفاقيتين؟ أم أنّ الأمر لم يزد على كونه مادة دعاية وترويجا ولو بالضجيج الذي لا يوفر طحينًا أبدا!

لذلك فقد أرجع عدد من المحللين إقدام ترامب على قرارات حادة من نوعية ضرب مطار الشعيرات السوري دون تخويل من الكونجرس أو الأمم المتحدة، ثم ضرب أفغانستان بـ"أم القنابل"، وتهديداته العسكرية لكوريا الشمالية، إلى إخفاقه في تحقيق كثير من وعوده التي تعهد بها في المائة يوم الأولى، ما دفعه إلى محاولة صنع الضجيج باستعراضات عسكرية للتغطية على الأمر.

 

للأمام ثم للخلف.. والعكس

 

وأجرت مؤسسة إخبارية دراسة إحصائية رصدت من خلالها 655 تصريحا للرئيس ترامب بشأن الولايات المتحدة، و 213 تصريحا بشأن الصين، 197 بشأن المكسيك، و104 تصريحات شملت إيران و 98 عن إسرائيل، ولفتت إلى أن ترامب تطرق في تصريحاته إلى إيران أكثر من دول قارة إفريقيا مجتمعة.. واللافت في هذه التصريحات أنّ الأداء "العشوائي" لا يقتصر على الداخل الأمريكي فحسب، وإنما امتد أثره ليربك مواقف الكثير من دول العالم في تعاملها مع الدولة الكبرى.

مثلا.. حبس العالم أنفاسه مع تصاعد الحرب الإعلامية بين أمريكا وكوريا الشمالية مؤخرا، حتى فوجئ الجميع بتصريح ترامب وهو يقول بكل بساطة لمؤسسة بلومبرج الإخبارية إنّه "سيتشرف" بلقاء الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ في الظروف المناسبة.. وبسرعة أصدر البيت الأبيض بيانا في أعقاب تصريحات ترامب ليوضح الأمر، مؤكدا أنّ على كوريا الشمالية أن تفي بعدد من الشروط قبل إجراء أي لقاء بين الزعيمين.

وكان ترامب هاجم الصين كثيرًا أثناء حملته الانتخابية وهدد بفرض عقوبات ضدها وإقامة علاقات رسمية مع تايوان. وعلى هذه الخلفية اختار الرئيس الصيني شي جين بينغ الانتظار ولم يتصل بنظيره الأمريكي بعد انتخابه للتهنئة قبل أن يحصل على التأكيدات المطلوبة من جانب واشنطن، خاصة فيما يتعلق بسياسة "الصين الموحدة". وزار جين بينغ مزرعة ترامب في فلوريدا يوم 7 أبريل، واتفقا على التعاون في ممارسة الضغط على كوريا الشمالية. ومن جهته تراجع الرئيس الأمريكي عن مواقفه السابقة حيال الصين وتخلى عن فكرة الحرب التجارية ضد بكين!

وحاول الرئيس المكسيكي أنريكي بينيا نيتو ضبط النفس والتحلي بالصبر وإجراء مباحثات مع ترامب ساعيا إلى التركيز على المصالح المشتركة، إلا أنه اضطر أخيرا إلى إلغاء زيارته إلى واشنطن بعد أن هاجم ترامب المكسيك من جديد في يناير الماضي.

وأثار رئيس وزراء أستراليا مالكولم تيرنبول غضب الرئيس ترامب، على ما يبدو، أثناء مكالمتهما الهاتفية بعد انتخاب ترامب، بعد أن ذكّر بوعد الرئيس السابق باراك أوباما باستقبال آلاف اللاجئين الموجودين في أستراليا. وقد أدى قرار ترامب الخاص بإلغاء اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ إلى زيادة التوتر في العلاقات بين البلدين.

وزارت ميركل البيت الأبيض في مارس الماضي لبحث قضايا الهجرة والناتو والاقتصاد، قائلة إنّ "التحدث مع بعضنا أفضل من التحدث عن بعضنا". لكن بعد اللقاء أثار ترامب استياء برلين بعد أن قال إن هناك مستحقات على ألمانيا للولايات المتحدة والناتو في مجال الدفاع عنها... ولكل ما تقدم، لا يبالغ المحللون حين يصفون فترة حكم ترامب حتى الآن بأنّها "حالة طوارئ مستمرة"، لكن ليكون الوصف أكثر دقة، يمكن أن نقول إنها "حالة طوارئ – مفتعلة – مستمرة"!

 

تعليق عبر الفيس بوك