حاتم الطائي
كسفينة تبحر بهدوء وثقة لا تعبأ بالعواصف والأنواء.. تواصل سيرها نحو مرافئ العالم.. على قاعدة من الثوابت والمبادئ؛ هكذا هي السياسة العُمانية منذ فجر النهضة المباركة، تُكمل مد جسور التعاون مع العالم وفق ثوابتها التي لم تحد عنها، والتي تتمثل في المصداقية والشفافية في التعاطي مع كافة القضايا الإقليمية والعربية والدولية بمختلف أنواعها، والالتزام بالموضوعية والإيجابيّة، وعدم الإنحياز إلى أي طرف دون حق، والأخذ بالحوار وأسبابه، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول أو السماح بالتدخل في الشأن العماني، وحل النزاعات والاختلافات بالطرق السلميّة والدبلوماسيّة.
من هذه الزاوية يمكننا النظر إلى التطوّر الذي شهدته العلاقات بين السلطنة وجمهورية ليتوانيا، أكبر الدول المُطلة على بحر البلطيق شرق أوربا؛ وهي عضوة في الاتحاد الأوربي أو أكثر الدول المتقدمة في عدة مجالات تقنية وعلى رأسها إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية، وقد كانت زيارة معالي وزير الخارجية الليتواني إلى السلطنة ترجمة لجهود بُذلت من الجانبين خلال فترة تمتد إلى ربع قرن، وتأكيدًا على أنّ السياسة الخارجيّة العمانية تواصل التقدم بنجاح.
فمن أهم النتائج التي تحققت خلال الآونة الأخيرة أنّ هناك نجاحاتٍ دبلوماسيّة يشهد بها العالم للسلطنة، التي تعد أرض السلام والتسامح؛ ولهذا يمكن فهم الأسباب التي تدفع وزارتي الخارجية والإعلام وعدد من الجهات الحكومية إلى تنظيم فعالية مثل "جوهر عمان" في العاصمة الليتوانية فيلنيوس قبل شهرين، والتي تضمّنت سلسلة من الأنشطة الإعلاميّة والفنية التي تهدف إلى التعريف بالسلطنة وإبراز ملامحها الحضارية وتاريخها العريق وإنجازات النهضة الحديثة، وما حققته السلطنة من تقدم شامل في مختلف نواحي الحياة، وكان طبيعياً أن تشهد تلك الفعالية باقة من الفنون والحرف والمشاهد التي تقدم ملخصاً وافياً عن تلك البلاد العريقة، وهذا الجانب الحضاري الذي يغلف العلاقات العمانية بمختلف دول العالم يكسب تلك العلاقات عمقاً وثراء.
ومثلما تعد جنيف السويسرية عاصمة دبلوماسية الغرب، أضحت مسقط عاصمة دبلوماسية الشرق والغرب معاً، حيث استضافت العديد من جلسات التفاوض وفي أحيان كثيرة نجحت في إتمام ملفات عجزت عواصم أخرى عن إطلاق مقدمات حلها؛ لهذا استحقت السلطنة أن توصف في كتابات محللين وخبراء دوليين وعرب بأنّها سويسرا الشرق؛ لأنّها تقف على مسافة واحدة من الجميع ولا تنحاز إلا إلى خيار السلام، وقد شهدت في الآونة الأخيرة حوارات، ولقاءات بين أطراف العديد من المواجهات التي تحولت إلى حروب أهلية، سواء في ليبيا أو اليمن أو سوريا، أو العراق؛ وذلك ضمن المحاولات المُخلصة لوقف نزيف الدم العربي.
قبل ذلك كانت هناك نجاحات تحققت مثلما تدخلت الدبلوماسيّة العُمانية في الوقت المناسب لتعيد صوغ العلاقات بين واشنطن من ناحية وطهران من ناحية أخرى؛ ما أفضى إلى الاتفاق التاريخي بين إيران ومجموعة 5 + 1 الذي أنهى المخاوف من حروب مُدمِّرة.. حتى أنّ صحيفة مثل الإكونوميست البريطانية المستقلة نشرت وقتها تحليلًا حول دلالات ومؤشرات توجهات السلطنة، وصفتها فيها بأنّها "دولة تمتلك القدرة على اتخاذ القرار الصائب والحكيم دون تردد حتى لو بدت أنّها تتبنى موقفاً مُتفرِّداً". وأشارت إلى أنّ مغزى الخصوصيّة هو استقلال السياسة الخارجية.
وتواصل الدبلوماسيّة العمانية قوّتها الإيجابيّة الناعمة ودورها حول العالم، وتترجم هذا الدور إلى تفعيل وتعميق التعاون في مختلف المجالات العلمية والاقتصادية، وفي هذا المثال الذي نحن بصدده حول علاقات السلطنة وجمهورية ليتوانيا تمّ توقيع مذكرة تفاهم في المجال الزراعي، وأخرى في مجالات العلوم والتعليم العالي.
وتُرجم كل ذلك في البيان المُشترك الذي أصدره معالي يوسف بن علوي ومعالي ليناس لينكافيشوس وأكدا فيه حرص حكومتي البلدين على تعزيز علاقات التعاون الثنائي، وتطويره بما يرقى إلى تطلعات الشعبين الصديقين في المجالات الاقتصادية والفنية والعلميّة.
إضافة إلى الاتفاق على استكمال إجراءات التوقيع على اتفاقية اقتصاديّة بإنشاء لجنة حكوميّة مُشتركة للتعاون الاقتصادي والتوقيع على اتفاقيات تجنّب الازدواج الضريبي وحماية وتشجيع الاستثمار والخدمات الجويّة.
وفي هذا السياق تأتي أهميّة تحقيق السلام لأجل استدامة التنمية، فلا تنمية ممكنة بلا سلام مُستدام.. ومن هنا فإنّ استراتيجيّة السلام العمانية تبتعد عن كونها شعارات، بل ممارسات يوميّة نابعة من ثقافة وعمق تاريخي، وتعزز الإنجاز الحضاري، وتكمل التقدّم نحو تعزيز التعاون مع مختلف دول العالم.