آفاق فكرية (7)

الحداثة والهوية الثقافية

د. يحيى الريامي

خبير في شؤون الملكية الفكرية

المرجع أطروحة الدكتوراه (الملكية الفكرية والحماية القانونية للمعارف التقليدية الموروثة - التحديات والحلول)..

مما لاشك فيه أنّ الثقافة تتخذ أشكالا متنوعة عبر الزمان والمكان، وهذا التنوع يتجلى في أصالة الهويات المميزة للمجموعات والمجتمعات التي تتألف منها الإنسانية، وكذا في تعددها وتفاعلها، ويتزايد تنوع هذه المجتمعات يوما بعد يوم، مما يستدعي التفاعل المنسجم والرغبة في العيش المشترك بين الأفراد والمجموعات ذات الهويات الثقافية المتعددة والمتنوعة، وبالرجوع إلى إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي نجده يشير إلى أن التعددية الثقافية هي الرد السياسي على واقع التنوع الثقافي، وحيث أنّ التعددية الثقافية لا يمكن فصلها عن وجود إطار ديموقراطي فإنّها تيسر المبادلات الثقافية وازدهار القدرات الإبداعيّة التي تغذي الحياة العامة، وإذا كانت الحقوق الثقافية جزءًا لا يتجزأ من حقوق الإنسان التي هي حقوق عالمية ومتكافلة فإنّ من حق كل شخص أن يتمتع بالقدرة على التعبير عن نفسه والإبداع في كل المجالات، إن إعلان اليونسكو عن التنوع الثقافي يكفل حرية التعبير وتعددية وسائل الإعلام والتعددية اللغوية والمساواة في فرص الوصول إلى أشكال التعبير الفنّي والثقافي والحضور الكامل في وسائل التعبير والنشر وهي مفاهيم وقيم تعتبر في إطار القانون الدولي ضمانات للتنوع الثقافي.

إنّ كل إبداع ينهل من منابع التقاليد الثقافية لا بد أن يزدهر بالاتصال مع الثقافات الأخرى، ويعتبر إحياء تراث الشعوب بمختلف أشكاله ونقله إلى الأجيال القادمة طريقا لتغذية الإبداع الإنساني بكل تنوعه، والتحفيز على تأسيس حوار حقيقي وفعّال وهادف بين الثقافات يخدم الاهداف الإنسانية ويساهم في إقرار ثقافة العدل والسلام والحوار بين الحضارات والأديان.

تتميز الحداثة بأنّها تحول جذري على كافة المستويات: في المعرفة، في فهم الإنسان، في تصور الطبيعة، وفي التاريخ، إنّها بنية فكرية كليّة، وهذه البنية عندما تلامس بنية اجتماعية تقليدية فإنّها تصدمها وتكتسحها بالتدريج ممارسة عليها ضربا من التفكيك ورفع القدسية، وتستخدم الحداثة أساليب رهيبة في الانتشار والاكتساح، فهي تنتقل كالجائحة في الفضاءات الثقافية الأخرى إمّا بالإغراء والإغواء عبر النماذج والموضة والإعلام، أو عبر الانتقال المباشر من خلال التوسّع الاقتصادي أو الاحتلال الاستعماري أو الغزو الإعلامي بمختلف أشكاله إلى غير ذلك من القنوات والوسائل.

عندما تصطدم الحداثة بمنظومة تقليدية فإنّها تولد تمزّقات وتخلق تشوّهات ذهنية ومعرفية وسلوكيّة ومؤسسية كبيرة، وتخلق حالة فصام وجداني ومعرفي ووجودي معمم، وذلك بسبب اختلاف وصلابة المنظومتين معا، فللتقليد صلابته وأساليبه في المقاومة والصمود أمام الانتشار الكاسح للحداثة وطرائقه في التكيف معها ومحاولة احتوائها، كما أنّ للحداثة قدراتها الخاصة على اكتساح وتفكيك المنظومات التقليدية وأساليبها في ترويض التقليد ومحاولة احتوائه أو استدماجه أو إفراغه من محتواه، فالصراع بين المنظومتين صراع معقد وشرس بل قاتل، فكثيرًا ما يتلبس التقليد لبوس الحداثة ليتمكن من التكيف والاستمرار بينما تتلبس الحداثة بالتقليد أحيانا لتتمكن من أن تنفذ وتفرض نفسها، وهذا التزاوج نشهده في كافة مستويات الكل الاجتماعي، ونشهده في التلاقح بين منظومتي القيم وفي المستوى الإدراكي والسلوك الفردي في المعرفة والاقتصاد والسياسة، ففي المجال السياسي مثلا يحصل تمازج بين مصدرين للشرعية السياسية: الشرعية التقليدية المستمدة من الماضي، والتراث والأجداد، وشرعية المؤسسة العصرية القائمة على أنّ الشعب هو مصدر السلطة، وهذا التمازج والاختلاط يطال الخطاب السياسي والإيديولوجي، والسلوكيات السياسية ويطبع المؤسسات السياسية والثقافة السياسية برمتها، وهو على الرغم من كل مظاهر التعايش تمازج صراعي في عمقه. هذه الحالة البينية هي حالة طويلة الأمد إذ أنّها لا تحسم بتحويل إرادي للمؤسسات أو للمنظومات القانونية بل عبر تحولات بعيدة المدى، وانتقال منظومة ثقافية تقليدية إلى الحداثة هو في الغالب انتقال عسير مليء بالصدمات الكوسمولوجية (الكونية) والجراح البيولوجية أو الخدوش السيكولوجية للإنسان، وكذا بالتمزّقات العقدية لأنّه يمر عبر "قناة النار"، أي عبر مطهر العقل الحديث والنقد الحديث، وكل ثقافة لم تتجشم مثل هذه المعاناة المرة تظل تراوح في مكانها على عتبة الحداثة وفي عدم قدرة على الحكم على نفسها بسبب عدم قدرتها على رؤية ذاتها من الخارج، وهذه القدرة لا يمكن اكتسابها إلا بموضعة الذات وإخضاع المسلمات لمحك العقل والنقد والحد.

[email protected]