تجفيف منابع الإرهاب وليس إدانته

 

عبيدلي العبيدلي

يوم أحدٍ دامٍ في مصر: الإرهاب يضرب في قلب كنائس الأقباط.. "أحد الشعانين"، أو أحد السعف، الذي يسبق عيد الفصح، كان داميًا في مصر. كنيستان للأقباط في طنطا والإسكندرية تعرضتا لتفجيرات إرهابية سقط فيها عشرات القتلى والجرحى، وحصيلة القتلى مُرشحة للارتفاع في ظل وجود حالات إصابات خطيرة.

أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الأحد 9 أبريل، حالة الطوارئ في مصر لمدة 3 أشهر، وذلك إثر التفجيرين اللذين استهدفا كنيستين بطنطا والإسكندرية وأسفرا عن مقتل 43 شخصًا. كما أعلن القائد الأعلى للقوات المصرية عن تشكيل مجلس أعلى لمُكافحة التطرف والإرهاب لحماية مصر ومنع المساس بمُقدراتها

يُشكل الأقباط الأرثوذكس الذين كانوا الأحد ضحية اعتداءين تبناهما تنظيم "الدولة الإسلامية" أكبر طائفة مسيحية في الشرق الأوسط وواحدة من أقدمها. وتعددت الإدانات الدولية إثر الهجومين اللذين قتلا فيهما نحو أربعين شخصًا.

دان مجلس الأمن الدولي الأحد الاعتداءين اللذين استهدفا كنيستين للأقباط في مصر وأعلن تنظيم "الدولة الإسلامية" مسؤوليته عنهما، ووصف المجلس ما حصل بأنَّه "الشنيع" و "الجبان". وأصدر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بياناً منفصلاً أدان فيه الهجومين وأعرب عن أمله في أن تتم محاكمة مرتكبيهما.

تلك كانت أهم تغطيات وسائل الإعلام الأجنبية لتفجيري كنيستين في طنطا والإسكندرية. وهي تعكس ردود فعل السلطة المصرية أولا، ومواقف المُنظمات الدولية ثانيًا التي لم تخرج عمَّا تعودنا سماعه ومشاهدته: ردود فعل غاضبة متشنجة من جانب وإجراءات أمنية ساذجة وغير مجدية من جانب آخر.

المحصلة النهائية التي عشنا معها منذ ما يزيد على ربع قرن إن جاز لنا القول: هي تصاعد أعمال العنف والإرهاب من جانب، وارتفاع عدد الضحايا وتنامي درجات التخريب من جانب آخر. والضحية في كل ذلك هي الوطن أولاً والمواطن ثانياً، فلا السلطات اهتزت أو تغير جوهرها، ولا المستفيدين من الإرهاب ومُغذي قنواته ومؤسساته مسَّهم أي من نشاطاته.

هذا يضع علامات استفهام كبيرة تتساءل عن التالي:

من هي الجهات الحقيقية التي تقف وراء هذا النمط من الإرهاب الذي بات يتمأسس، ويتحول من مُجرد عمليات إرهابية متناثرة هنا أو هناك كي يضرب أطنابه عميقاً في البلاد العربية على وجه الخصوص؟ ولماذا ينجح هذا الإرهاب في "الصمود"، رغم الشجب الدولي له، والتَّعاطف العامي مع ضحاياه؟

لماذا يكشر الإرهاب عن أنيابه عند محطات معينة، ومُنعطفات تاريخية مُهمة من مسارات الحراك السياسي العربي؟ وكيف نفسر أنه كثيراً إن لم يكن دائماً يُساهم في إيقاف أي مشروع تنويري يطل برأسه على المنطقة العربية؟.

ما الذي يُفسر اختيار الإرهاب مسرح عملياته للدول العربية ذات الكتلة الكبيرة عربيًا، والمكانة المميزة دولياً؟

قائمة طويلة من مثل هذه التساؤلات ليس هنا مجال سردها، ونكتفي عوضاً عن ذلك برصد بعض المؤشرات التي ربما تُساهم في فهم أسباب انتشار ظاهرة الإرهاب في المنطقة العربية، والعوامل التي تغذي انتعاشها.

أول تلك الأسباب هو الفكر الذي يُسيطر على ذهنية المواطن العربي وينعكس، يومياً، على سلوكه. فرغم دخولنا القرن الواحد والعشرين، لكننا طرقناه من أبوابه الشكلية ولم نلجه من بواباته الجوهرية. فالحقيقة المؤلمة التي ينبغي أن نعترف بها لأنفسنا قبل الغير، هي أننا ما نزال نعيش أمجاد عنترة العبسي، ونُحارب بسيوف داحس والغبراء، وتحكمنا ذهنية حاتم الطائي.

ثاني تلك الأسباب هي الحالة الاجتماعية المُتردية التي تعيشها نسبة عالية من سكان المنطقة العربية، وخاصة في بلدان المركز منها مثل مصر والمغرب، بل وحتى العراق.

ثالث تلك الأسباب الوضع السياسي المأزوم الذي ما يزال هو الوجه الرئيس للأنظمة العربية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنَّ العرب، رغم نجاحاتهم في طرد الاستعمار التقليدي من فوق أراضيهم، لكنهم ما يزالون يسيرون جغرافيتهم السياسية وفق منظومة قوانين نتائج اتفاقية سايس-بيكو المشؤومة.

رابع تلك الأسباب هو أننا ما نزال "حضاريا" نعيش مرحلة المُراهقة إن لم تكن الطفولة، ولم نبلغ بعد مرحلة النضج والرجولة، وليس هناك ما هو أكثر دلالة على ذلك تنصلنا من مسؤولية واقعنا المأساوي، بما فيه انتعاش ظاهرة الإرهاب، وإلقائها مسؤوليتها على الآخرين، وقائمة أسماء دولهم ومنظماتها أطول من أن تستوعبها مساحة هذا المقال المحدودة.

خامس تلك الأسباب هو أننا، ربما دون أن نعي ذلك، لم نُعالج سوى أعراض الإرهاب عوضًا عن التَّصدي الحقيقي لأسبابه، فتشكيل اللجان، وإعلان حالة الطوارئ، بل وحتى تعويض الضحايا، جميعها مهدئات مُؤقتة، ربما تنجح، وغالباً ما تفشل حتى في مُجرد وضع حدٍ للأعراض، فما بالك باستئصال الأسباب.

إن كان العرب، والمقصود هنا كل العرب، ليس الحكومات فحسب، بل المواطنين ومُنظمات المجتمع المدني، سواء مع مؤسسات الدولة، أرادوا محاربة الإرهاب بشكل جاد وجذري عليهم أولاً وقبل كل شيء اعتبار ذلك مسؤولية قومية شاملة يطالبهم الواجب بالتَّصدي لها دون الاستجداء من الآخرين.

يترافق ذلك مع مصارحة شفافة مع النفس لا تغلفها صحائف النفاق ولا مغالطة الذات، تتوجه مباشرة نحو منابع الإرهاب وجذوره من أجل تجفيف الأولى واستئصال الثانية.

ربما يتطلب الأمر عملية جراحية كبيرة مؤلمة، لكنها في نهاية المطاف تجتث المرض من عروقه، ولا تترك أمامها المجال أمام النمو من جديد.

في اختصار شديد علينا الابتعاد عن تشكيل اللجان والتوقف عن إعلان حالة الطوارئ، وتحاشي إلقاء أوساخنا على الآخرين إن شئنا أن نضع حدًا للإرهاب.

وهذا يقود نحو طريق واحدة تؤدي إلى تجفيف منابعه، بدلا من الاستمرار في لوك عبارات إدانته، واستمراء لعن من يقومون به!!!