مؤسسة منسية

علي بن سالم كفيتان بيت سعيد

عند اطلاعي على إحدى الجرائد خارج السلطنة استوقفني إعلان عن وظيفة شاغرة وحتى هذه اللحظة يبدو الأمر عادياً فجرائدنا نتابعها لمعرفة الوظائف الشاغرة لكن الجديد هو نوعية الوظيفة الشاغرة إنِّها (شيخ قبيلة) فسألت نفسي هل هذه الصفة أي الشيخ باتت وظيفة يُعلن عنها في حال شغورها ويتقدم لها من يشاء ويتم اختيار الأكفأ، وما هي المعايير ومن الذي يُنصب الشيخ هل نفسه أم أسرته الصغيرة أم عشيرته أم قبيلته أم شخص آخر؟

في الحقيقة بحثت كثيرًا ولم أجد لهذه الوظيفة وصفاً وظيفياً ولا اختصاصات واضحة، مما أعطاني انطباعاً بأنها الوظيفة المجانية المُحببة لكثير من الطامحين، فهناك صفة اجتماعية يحملها هذا الشيخ يستعملها وفق ما يشاء، ونتيجة لاهتمامي بالأمر اتِّضح لي أنَّ الشيوخ قبل عهد النهضة المُباركة كان عددهم محدوداً جدًا، وعلمت كذلك أنَّ دور الشيخ لا يفضله الكثير من النَّاس، وأنَّ مُعظمهم غير موثقين في السجلات الرسمية آنذاك، بل سُلطتهم الأدبية خلدت أسماءهم في أذهان الأجيال. وما أذهلني أنَّ هنالك اليوم آلاف الشيوخ يمتلكون ختم المشيخة، ولا يُقدم معظم هؤلاء مُقابل ذلك أي خدمات تذكر للمجتمع.

جرني الفضول وذهبت للجهات المختصة بمتابعة هؤلاء الموظفين، فسألتهم هل سيعملون لهم بصمة حضور وانصراف قريباً؟ وهل هناك من خطة سنوية لهم؟ أو لقاءات أو مهمات توكل لهم؟!

ورغم التَّحفظات الكبيرة كانت الإجابة صادمة؛ حيث أوضحوا أنَّ الشيخ بعد أن يتم تعيينه لا نراه إلا في مناسبات متباعدة، كأن يأتي ليسأل عن كروت الدعوات فهي جزء من المحسوبية، فبعضهم يفضل الظهور في المناسبات العامة حتى ولو افتتاح محل تجاري بسيط أو حفل عشاء، ليُعبر للأخرين عندما يرتدي خنجره المزخرف ومصره الفاخر بأنَّه رجل مُهم ويجب عليهم احترامه وتبجيله.

قبل أن تصبح هذا الصفة وظيفة كانت لها مُسميات شتى وجميعها تصب في نفس الهدف ويقوم من يشغلها برعاية مصالح النَّاس وتقديم الخدمات لهم من ماله الخاص ومن وقته وعلى حساب أسرته، فكم سمعنا عن دور الشيخ فلان بن فلان ومواقفه العظيمة تجاه الناس، فهو من يقدم إليه الضيف ويجد الحشمة والأمان، وهو من يلجأ إليه المظلوم فيزيل عنه المظلمة، وقد يغيب في سبيل ذلك أياماً، بل شهوراً عن أسرته، وقد يدخل السجن من جراء بحثه عن حقوق النَّاس. في ذلك الزمن كان الشيخ يستمد اختصاصاته التي وضعها له المجتمع من الناس الذين يمثلون دور الرعية الصالحة المُطيعة لهذا الشيخ المخلص وليس له أيّ مُخصصات مالية من رعيته ولا من الحكومة مُقابل هذه الخدمات الجليلة التي يُقدمها (إنِّه رجل متطوع).

ربما قد يختلف معي البعض في هذا الطرح مبررًا ذلك بوضع إطار فلسفي على من يمتهنون وظيفة الشيخ اليوم من واقع نظرية الحكم المحلي بأن هناك مكاسب غير مرئية من خلال منح الشيخ بعض المزايا كنوع من الاعتراف بدوره، إلا أن أصحاب هذا الطرح اضمحلوا عندما مرت البلاد في عام 2011 بمرحلة مهمة فلم يستطع الموظف الشيخ أن يجد لنفسه مكاناً لحل الأزمة فالرعية لم تعُد تثق بهذا الأمر.

إنَّ فهمي للمخصص المالي للموظف الشيخ هو نوع من المُساعدة له كونه يُسافر ويستضيف الناس في داره لقضاء مصالحهم، أو قد يخصص هذا المبلغ للفقراء والمساكين من رعيته، لكن النظرة اليوم غير ذلك، ولو ذهبتم للاطلاع على ملف الرجل لوجدتم أنّه طلب شهادة راتب عدة مرات من الجهة المُختصة، والقصد معلوم فراتب الموظف الشيخ مرهون للبنك في سلفية طويلة الأمد وعظم الله أجر الرعية.

إن السجل الوراثي لخلافة الشياخة أفرز في كثير من الأحيان جيلا جديدا من الشيوخ الشباب لم يترك لهم الدور الكافي لإثبات وجودهم؛ حيث ينظر لهم ممن حولهم في المجتمع العشائري بأنَّهم غير جديرين بالثقة نظرًا لصغر سنهم، ولذلك تجدهم تواروا خلف عمائم أخرى وتركوا هذه المهمة الطرزانية لمن يجيدها، أو بالأحرى لمن كان يحلم بها، فهم مستمتعون بالمخصص الشهري والهدوء النسبي، والآخر له الركض خلف الحلم الضائع.

لا شك أنّ تطور التجربة الديموقراطية العُمانية قد ساهم في التقليل من دور الشيخ من خلال وجود مجلس شورى منتخب يقوم بالدور التشريعي ومجلس بلدي منتخب يقوم بالدور الخدمي، وسلطة قضائية ثابتة الأركان، إضافة إلى رسوخ قدم دولة المؤسسات، فأصبح الشيخ خارج دائرة صنع القرار، إلا من رحم الله، من الذين لا زالوا يتشبثون بدورهم الأصلي كشيخ؛ وليس كموظف، وغالبيتهم يملكون صفة أخرى مهمة، تدعمهم بقوة، وهي المال الذي يتم توظيفه لخدمة الشياخة.

لقد باتت هيكلة مؤسسة الشيوخ ضرورة ملحة بحيث تصبح لها هوية رسمية واضحة بين مؤسسات الدولة، تماشياً مع تطور المرحلة الحالية التي تستوجب إخراجها من تابوت النسيان.

  

حفظ الله عمان وأدام على جلالة السلطان نعمة الصحة والعافية.

alikafetan@gmail.com