حاتم الطائي
تتَّفق أدبيَّات الاقتصاد على أنَّ "التنمية" عملية طويلة الأجل، وتحتاج في سبيل تحقُّقها إلى ثلاثة أُطر رئيسيَّة: الإرادة السياسيَّة، والخطط القابلة للتطبيق، والعَمَل الجاد لتنفيذها على أرض الواقع. وعلى ذِكْر الواقع، فإنَّ نظرةً -عَابِرة أو مُتمعِّنة- على حَجْم مُنجزنا المتحقَّق اليوم لا تُخطئ إرداةً ساميةً منذ إشراقة فجر النهضة لتعظِيْم حجم الاستفادة من مُقوِّماتنا ومواردنا لبناء عُمان الحديثة، تُنافس لحَجْز مِقَعْدٍ لها في السِّباق الحضاريِّ العالمي، وفي سبيل ذلك صِيْغَت الخُطط، ووُضِعَت الإستراتيجيات والآليات الضَّامنة لتحقيق ذلك، فيما بَقِي الإطار الثالث والأخير دائمًا هو مِحْوَر الحديث الذي يَتجدَّد دائمًا؛ خصوصاً في مُتابعة التنفيذ والتقيُّد بالأُطر الزمنية لتحقيق الأهداف.
فخِلال المراحل الماضية كانَ من المفهوم أنْ يكون للحكومة الدَّوْر الأبويْ الذي تتسنَّم فيه منصَّة الوصَاية؛ باعتبار أنَّ مُؤسساتنا كانت في حاجة لذلك؛ لأنها لم تشب عن الطوق وقتئذ، إلا أنَّ الواقع اليوم بتغيُّراته وما تفتَّقت عنه الذهنيات من خطط إنماء واعدة؛ استوجبتْ وزن المعادلة؛ بحيث يكون أطرافها بمثابة قُطْبَي رَحَى، يدفعان في ذات اتجاه التقدُّم واستدامة التنمية، في إطار شراكةٍ حقيقيةٍ لتحويل الخُطط إلى واقع، كمسؤولية وطنية وُضعت مسؤوليتها على الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، في شراكةٍ مجتمعيَّةٍ مُستدامة.
ففيْمَا تتلمَّس خططُنا الوطنية خطواتها على طريق الخروج من تبعات انهيار أسعار النفط كمصدر وحيد للدخل، إلى رِحَاب التنويع الاقتصادي الحقيقي، يظلُّ تعزيز فاعلية وكفاءة الأداء الحكومي كأحد مُتطلبات التنمية حديثًا ذا شجون؛ إذ يُظهر الواقع تبايناً في الأداء بين مُختلف الجهات الحكومية؛ ففي حِيْن نجد إحداها تُسابق الزَّمن من أجل إنفاذ إستراتيجياتها المستقبلية، وتحقيق عوائدَ قصيرة وبعيدة المدى، تتباطأ أخرى أو تُحْجِم على اتخاذ خطوات حقيقية للأمام يُمكنها من خلالها رَفْد عملية التنمية؛ وهو أمرٌ يُمثل طرحه قضية غاية في التعقيد؛ خصوصا وأن َّمُناسبته تجيء ونحن على مشارف إكمال 5 سنوات على انطلاق "ندوة تطوير الأداء الحكومي"، التي لم يَجْد الكثيرُ من توصياتها طريقَه إلى التطبيق؛ لا من حيث المراجعات المستمرة، ولا قياس مُستويات الأداء باستخدام منهجية تحديد نقاط الضعف والقوة، كضمانة لتحسين إنتاجية القطاع العام وتعزيز حَوْكَمته ومُراجعة عملياته، وتطوير سياساته وخط سِيْر العمليات والخدمات التي تقوم بها الوزارات والجهات الحكومية بما يتواكب مع الاحتياجات والتغييرات المستحدثة.
فتطوير آليات قياس ومتابعة الأداء الحكومي، وتعزيز ثقافة القياس باستخدام مؤشرات الأداء، أمرٌ يفرضه واقعنا اليوم، خصوصاُ ونحن نَنْشُد تحسينَ وتبسيطَ الإجراءات برؤى أكثر مُواكبة للمستجدات، ومَعَالجة أوجه القصور، ومُكَافحة البيرواقراطية والمركزية والازدواجية؛ من خلال آليات تكفُل الوقوفَ على مُستويات الإنجاز؛ إنفاذاً لبرامجنا التنموية وِفْق جَدَاول زمنيَّة محدَّدة؛ بما يَضْمَن سهولة مُراجعة وتقييم سير العمل من جانب، وتطوير منظومة العمل من جانب آخر.
وبالمقابل، وتأصيلًا لمبدأ الشراكة مع القطاع الخاص، يُمكننا القول بأنَّ التطورات المتلاحقة التي نَشْهَدُها منذ سنوات، والرَّامية لترسيخ دولة المؤسسات وتوطيد أركانها، تَسْتَوْجب تحرُّكا حكوميًّا أكثر فاعلية لتقوية القطاع الخاص؛ ليقوم بالدور المأمول منه في المرحلة المقبلة؛ من خلال حُوار تطغى عليه لغة المصالح المشتركة، ويغُوْص عميقًا في كيفية تذليل الصِّعاب، وتجاوز العقبات؛ ليستطيع القيام بدَوْرِه التنموي الرائد على أكمل وجه، وبما يكفُل له الانتقالَ إلى مَرْحَلة نوعية جديدة تقُوْم على الابتكار والإبداع والمبادرة والتنويع في الاستثمار. وعلى القطاع الخاص بقياداته أنْ يضطَّلعوا بمسؤولياتهم لتقديم شيء استثنائي للمجتمع، يُسهم بفاعلية في مسيرتنا التنموية؛ فكما نادينا الحكومة بالإصغاء إليكم كشركاء؛ عليكم كذلك أن تضطلعوا بمسؤولية تلك الشَّراكة والانخراط أكثر في الاستثمارات الإنتاجية، وعدم التَّركيز على الرِّبح السريع، والممارسات السلبية لبعض الأنماط التجارية؛ لما لها من آثار سلبية على اقتصادنا الوطني.
أمَّا المواطن -مُوظَّفًا في أحد القطاعيْن كَان، أو صاحب مشروع خاص- فعليه أنْ يعي تمامًا أنَّ المصلحة مُشتركة في بناء الوطن، وأنَّ علينا أن نتَّحِد لمواجهة التحديات عبر فكرٍ جديدٍ، وصفحة جديدة تستصحب مفاهيم عملية يمكن تفعيلها على أرض الواقع، وتحويل العقبات والمشكلات والأزمات إلى تحديات تُسفر مُجابهتُها عن إيجاد فرص للمزيد من التقدُّم والازدهار؛ فالشراكة المتكامِلَة تتطلَّب تعزيزَ مفهومها وتفعيله من أجل صالح المجتمع، ومواكبة التطلعات الكبيرة لبناء الوطن.
.. إنّ المرحلة المُقبلة -والتي في نظري تبدأ من الآن- هي مرحلة يحدِّد معالمها الاقتصاد أولاً، وهي مفصليَّة ومهمة بكل المقاييس؛ وشرط اجتيازها بنجاح يتمثل في الشراكة الفعلية والحقيقية بين الجميع لنمضي قُدمًا جنباً إلى جنب نحو آفاق التنمية المُستدامة بروح وثَّابة وعزيمة وقَّادة وعملٍ حقيقيٍّ جاد.. ونُجزم بنجاعة العمل المشترك في مواجهة الاستحقاقات الحالية والمستقبلية، فنحن نعوِّل كثيراً على تنمية يُشيِّدها أبناء هذا الوطن جميعًا، بأيادٍ قادِرَة على إحداث حِرَاك إيجابي ومبادرة بناءة؛ ردًّا لجميل هذا الوطن المعطاء.