درسٌ من مدرسة الجَدَّات

زينب الغريبية

في مدرسة الجَدَّات التي تقع في قرية تبعد (120) كيلومترًا من بومباي الهندية، تتَّجه الجدات بالزي المُوحد باللون الوردي، فرحات بأن توفرت لهن فرصة قد فاتتهن في زمن لم يستطعن الذهاب إليها، بسبب ظروفهن الحياتية القاسية وحاجتهن للعمل من أجل تأمين الحياة لهن ولأولادهن وبيوتهن، السعادة التي تغمر قلوبهن التي أضناها تعب الحياة وما مررن به من ظروف صعبة وكفاح تُبين لنا معنى ما نملكه ولا نعي قيمته الحقيقية.

محو الأًمية لتعلم القراءة والكتابة فقط لعجوز قد ترى أنَّه تبقى من عمرها القليل، شيء كبير ومُفرح لها، فهي تجد شيئاً ثميناً قد حُرمت منه لفترة طويلة قضت حياتها دونه، في حين نرى طلابنا يحملون حقائبهم صباحًا متثاقلين بدعوى ألا شيء جاذب بالمدرسة، هنا لا أنزه النظام التعليمي، ولا أدّعي كماليته بقدر ما أُشدد على ضرورة تفاني الطلبة في نيل العلم بأقصي ما يستطيعون من حماس شباب وطاقاته.

فالمُعطيات أمام الطلبة في مُختلف الأعمار والمراحل الدراسية في المدرسة أم في الجامعة والكلية أصبحت كثيرة ومتعددة، لو أراد المتعلم نيل العلم منها، فقد سهلت طرقها واقتربت منه، حيث أصبح العالم يجتمع في جهاز بين يدي الشخص، يربطه به عبر شبكات الإنترنت، إلا أنّه من المفارقات أن نجدها تعطيه نتيجة عكسية بدلاً من أن تكون مصدرا للعلوم وتنمية المعرفة وسد شغفها، أصبحت نافذة لغير المرغوب والألعاب والتسالي التي تضيع الوقت أكثر مما تفيد الشخص.

ولكنها الطبيعة البشرية عندما يمتلك الإنسان الشيء يصبح غير ذي قيمة له، في حين لو كان بعيد المنال عنه لسعى له وأدرك أهميته فهو محروم منه. إلا أنّ التأمل في الحياة، والانفتاح على حياة الشعوب من حولنا قد يكفينا للإحساس بما نملك، وكيف أنَّ قسمة الحياة أعطتنا وحرمتهم، ومن المُمكن أن يكون العكس، ومن الممكن أن يصبح العكس مستقبلاً، لذا علينا أن نشحذ هممنا بما لدينا اليوم، وننهل منه ونستفيد، كي نقي أنفسنا تقلبات قد لا نعيها اليوم، أو نقمة لسوء ما فعلنا بما ملكناه يومًا ما.

فلو أخذنا أطفالنا إلى مدرسة الجدَّات تلك، وبإمكاناتها البسيطة، ومدى السعادة التي تشع من أعينهن، ماذا سوف يقلن لهم؟ ما الشعور الذي ستنقله تلكم الجدات إلى قلوب أطفالنا الذاهبين إلى المدرسة العصرية التي تهيء لهم التعليم بدلال، لا ضرب ولا جرح لمشاعرهم، يحملون من أبواب بيوتهم إلى أبواب المدارس، في أحضان المُعلمات، في صفوف مبردة ومهيأة، بيئة راغدة - قد تحتاج للتطوير حسب الإمكانات المتاحة - لكنها تكفي لأن تكون بيئة دلال للطفل العصري، الذي أثقلته الحقيبة المدرسية، وواجبات المدرسة، وطلبات المشاريع التي ستطور من مهاراته العقلية والحسية.

وفي المُقابل سهرة على لعبة (البلاي ستيشن) ليحقق معدلاً عاليًا، ترهقه صحياً وذهنياً، يعتبر ترفيها له، يخرجه من ضغط المدرسة وواجباتها، أفكار رسخت في عقولنا نحن الكبار قبل الأطفال أنفسهم، خرج ابني يوم الخميس الفائت وقد أنهى أسبوعين من الامتحانات النهائية كانت أيام ضغط عليهم، ويُخبرني بالبهجة التي تتدفق من قلوب أصحابه في مسيرة(حسب وصفه) يصرخون (وداعاً للامتحانات ومرحباً بالبلاي ستيشن) حتى حضرن إليهم المعلمات لإيقافهم، فقلت له: هل تعتقد أنَّهم على حق؟ وهو يتأمل وجهي وتصعب عليه الإجابة، فهو يميل لما يقولون، ولكنه يعلم أنَّهم على خطأ، ويعلم رأيي في الموضوع ولا يود مُخالفتي، وأخرجها بعد تفكير: أوافق على ما تقولين.

لو عرضنا أبناءنا لنماذج من تجارب شعوب حولنا، وتأملوا في مدارس الجدات وحتى الصغار أمثالهم، وما يعانونه مُقابل الحصول على العلم في بيئات فقيرة وأحياناً قاسية مناخيًا أو جغرافيا من أجل الحصول على العلم والمعرفة، لتوصلوا ليقين النعمة التي بين أيديهم، وكيف من المُهم أن يتمسكوا بها، ويأخذوا منها كل ما يستطيعون لتطوير أنفسهم من أجل أنفسهم ومستقبلهم، ومستقبل وطنهم.