"خبيني م الزمان خبيني"

 

 

عائشة البلوشية

 

تأخذني ألحان مُوسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب ﻷذهب بعيدًا وأنا أستمع إلى: (أمل حياتي يا حُب غالي ما ينتهيش.. يا أحلى غنوة سمعها قلبي ولا تتنسيش، خد عمري كله، بس النهار ده خليني أعيش.. خليني جنبك خليني في حضن قلبك خليني)، "أمل حياتي" رائعة كوكب الشرق أم كلثوم، من كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل.

وكُنت ولازلتُ كلمَّا لامست كلمات هذه الأغنية مَسامعي تنحدر دموعي شوقًا للقاء المحبوب الذي بكى شوقاً للقيانا قبلنا، كنت أحس بأنَّ هذه الكلمات الساحرة تُعبر عن حُبي العظيم له صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، فأبكي وأبكي بحُرقةٍ عندما تصل إلى المقطع: (يا حبيب أمبارح وحبيب دلوقتي.. وحبيبي لبكرة وﻵخر وقتي)، وحتى لا أُتهم بالشطط أو العتة لم أذكر هذا الأمر ﻷيّ شخص، بل احتفظت بهذا الشعور لنفسي، إلى أن أتت اللحظة التي استلمت فيها قبل عدة أيام أحد مقاطع الفيديو الذي وصلني عبر تطبيق الواتس آب، شاهدت خلاله الحبيب علي زين العابدين الجفري وهو يتحدَّث عن هذه الأغنية تحديدًا، وعن إحساس الوجد الذي اكتنفه عندما سمع كلماتها، لدرجة أنَّه أضاع محطة وصوله لشدة ما أخذته روعة الشعور الذي عاشه في تلك اللحظات.

ويمضي ليقول إنّه وعند بداية تسجيله لحلقات (الطريق إلى الله 2) في جمهورية مصر العربية في مسجد (أحمد بهجت)، إذا بشيخ مُسن يمشي متكأ على عصا، يحضر الحلقات ويجلس وراء الكاميرات، فهمس أحدهم في أذنه بأنَّه الشاعر أحمد شفيق كامل، فيقول ذهبت إليه ﻹلقاء السلام وسألته: قصيدة أمل حياتي أبكتني، في من نظمتها؟، فالتفت ونظر إليَّ نظرة قوية ذات معنى، وقال: أُقسم بالله أني نظمتها هي وقصيدة "أنت عمري" في الروضة الشريفة وكنت قاصدًا بها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أحد يعرف هذا الأمر إلا السيِّدة أم كلثوم والأستاذ عبد الوهاب، حتى أن السيدة أم كلثوم غيَّرت الشطر: (وأنام وأصحى على شفايفك بتقول لي عيش) وقالت: "ما دام نظمتها في سيدنا النبي ما ينفعش أخاطبه وأنا امرأة وأقول له (شفايفك)"، فغيرتها إلى (وأنام وأصحى على ابتسامتك تقول لي عيش)، فتملكتني قشعريرة المندهش فرحًا، وهززت رأسي يقينا أنّها ذبذبات الصدق والصفاء هي التي كانت تحرك وجدي لتنحدر دموعي مترجمة ذلك الحب الأثيري الرقراق نحو خير البشر صاحب الحوض يوم العطش الأكبر، وختم الجفري كلماته عن لسان الشاعر المحب أنّه تمنى أن يموت ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم راضيًا عنه...

هكذا هو صدق الكلمة، فما يخرج من القلب يصل إلى القلوب، ﻷنّها ذبذبات تجري عبر موجات الشعور، وهذا هو الجمال الحقيقي، عندما تكون الكلمة بلسماً يشفي، وكذا المُتلقي لكل حرف، يمكنه أن يستلذ حلاوة الكلم، وأن ينسبه إلى رقي التَّعاطي مع السطور، وحتى إن لم يستسغه، عليه أن يركن إلى التغافل أو التغاضي، حتى لا يلوث صفاء قلبه بأي شعور رمادي، ومع تراكم اللون المرة تلو المرة يشوب القلب سواد بغيض، ويبدأ في حمل النفس على الحقد والضغينة والحسد والعياذ بالله، فرزقي مقسوم لي ولن يأخذه غيري ولو طاول عنان السماء، ورزق غيري جعله الله له، ولن انتقص منه ذرة واحدة، ولو حشدت جيوش المشاعر ضده، وعمري سأعيشه كاملاً ولن يستطيع أي بشر سلبي ثانية واحدة منه، لذلك لماذا لا يخاطب كل منّا نفسه قائلا: لماذا لا أجعل هذه الثواني مليئة بالخير والرضا والسعادة والكلمات الطيبة التي تثقل ميزاني؟، لماذا أصر على دس أنفي فيما لا يعنيني؟ هل من أجل الحصول على أسبقية الخبر؟ لماذا لا أدع البشر وشأنهم، وأتذكر بأنَّ ما حجبه الله عني من أخبارهم كان لخير أراده الله تعالى لي؟ أو لا تستهلك متابعة أخبارهم وتحركاتهم طاقتي ووقتي؟ لذا لماذا أهدر وقتي وطاقتي فيما لا يجلب لي سوى المتاعب!! لماذا لا أنتبه لهذه الثواني وأملأها بما يفيدني ويفيد غيري؟

قرأت مرَّة مقولة لشكسبير تقول: "التدقيق في أتفه التصرفات قد يهوي بك إلى الجنون، لذا تغافل مرَّة، وتغابى مرتين"، لذلك وبما أننا على يقين تام بأننا راحلون عن هذه الدنيا، لماذا لا نحشو جميع ثقوب حيواتنا بالتمتع بجمال كل جميل خلقه الله تعالى لنا، وأبسطها على الإطلاق استطاعتنا قول (الحمد لله) مستشعرين معناها في أرواحنا وأنفاسنا، وأن نحاول أن نترك أثراً جميلاً مهما بلغت بساطته، وأيسرها (كلمة طيبة)...

 

_______________________________________

 

توقيع: "أتضيق والله ربك؟ أتبكي والله حسبك؟ الحزن يرحل بسجدة، والبهجة تأتي بدعوة"، الألباني -رحمه الله.