عبد الله العليان
لاشكَ أنَّ الظروف التي يعيشها الوطن العربي، تُعد من أصعب وأخطر الظروف التي مرَّ بها مُنذ الحرب العَالمية الثانية، بعد وقوع أغلب هذه الأوطان في قبضة الاستعمار، وتعطل التنمية والتَّقدم، لأسباب لاحقة وسابقة.
لكن ومع ذلك فإنَّ الوضع الرَّاهن، يُعتبر بلا شك، أسوأ من تلك الفترة، خاصة وأنَّ الخلافات والصراعات بين بعض هذه الدول، ساهمت في التَّردي والتراجع والتشرذم، مع أنَّ الأمل في النهوض والتطور، كان شعاراً رفعه العديد من المصلحين، وإننا كأمة عربية نتراجع في مسارنا النهضوي، منذ بدايات القرن الماضي، وبعد حصولنا على الاستقلال من الاستعمار، إذ قبل ذلك كنُّا نرمي كل مشاكلنا على هذا المستعمر الغاشم، وبعد الاستقلال، مع كل تراجعاتنا ومشكلاتنا وإخفاقاتنا على الاستعمار وأعوانه، كلما حدثت فاجعة في واقعنا العربي، أو حدثت أخطاء سياسية أو فكرية، فإننا نرمي اللوم على المؤامرة والتدخلات الخارجية، بدلاً من مراجعة الأخطاء وتصحيحها.
د/ فهمي جدعان في كتابه القيم (الطريق إلى المستقبل)، لم يدرك أحد من مفكري عصر النهضة العربي أي هدف من الأهداف الجوهرية التي نصبّها غاية لتفكّره أو تأمله أو فعله. وما تحقق جاء على غير ما كانوا ينشدون. طلب رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي مُركباً مُتماسكاً متكاملاً من التقدم المادي الأورباوي والتقدم الروحي الإسلامي فجاء هذا المركب بعد قرن من الزمان خليطاً هجيناً من الأوضاع والأحوال المتراكبة على غير نظام ومن القيم المتضادة المتشابكة في حالة فريدة من الفوضى الشاملة. وأراد جمال الدين الأفغاني أن يوحد" دول الإسلام" لمناهضة الضغط الأوروبي فانهارت الدولة العظمى ـ ويقصد الدولة العثمانية ـ وترامت أشلاؤها وسارت دولها المبتدعة في حال سبيلها، أما الرؤوس التي رأى أنَّ الخلاص سيأتي بمجرد قطعها فأثبتت كل الوقائع أنّ علينا أن نكون على قدر غير يسير من السذاجة لنصدق أن المشكلة برمتها تكمن في هذا الوجه من النظر.
وهدف محمد عبده، كما يرى د/ جدعان، يطلب التجديد ونبذ "الجمود على الموجود" واليأس، فاشتد تعلق القوم بالتقليد ولم يظهر منهم إلا الفعل اليائس. ونافح شبلي شميل وسلامة موسى عن الداروينية والتفكير العلمي فلم يذكر أحد الداروينية بخير أو بسوء وباتت كل الأفكار والمعتقدات ـ العلمية والخرافية على حد سواء ـ تساق باسم العلم نفسه.
ودعا قاسم أمين إلى مضاهات التمدن ـ المجتمع بـ"تحرير المرأة" وبإنتاج "امرأة جديدة" فجاءت المرأة بالحجاب ـ أو بالسفور ـ الذي أراد وبالروح التي لم يرد".وهتف عبد الرحمن الكواكبي بالحرية والحرب على "الاستبداد" وبأن "العظمة لله"، فظلت الحرية مطلباً عسيراً، وأستقر الشعار أن العظمة للبشر، وأن الديمقراطية كائن" تحت كل الشبهات" ، ودعا علي عبد الرازق ومحمد أحمد خلف الله وغيرهما إلى دولة مختلطة بأسباب السياسة الدنيوية فانتهت الأمور إلى الإسلام السياسي.
ولا شك أنَّ تيارات الإصلاح الديني الحديثة، كما يرى د/ فهمي جدعان، قد تنبهت إلى الخلل العميق في الوجود الإنساني وبذلت جهوداً طيبة في تدارك هذا الخلل، لكنها صوبت نظرها إلى المظاهر الخارجية "الشكلانية" ـ في هذا الوجود وأفلت من بين يديها ما هو جوهري، وهو أنَّ الإنسان يحيا في عالم "تاريخي" يقتضي تماماً توجيه النظر إلى أبعاد عميقة جديدة في عالم الكون الحديث: الإنساني والاجتماعي والطبيعي.
ومهما يكن من أمر فإنَّ الوضع" التآمري" ـ الذي هو في حقيقة الأمر مظهراً للصراع التاريخي ـ قد بدأ أعظم خطراً وأشد بأساً وأقسى أثراً لما اقترن به من أشكال العطب العميق الذي اعترى في العصور الأخيرة كينونة العالم البشري الذي ننتسب إليه ويعيش فينا. لكن الذي ينبغي أن يقر في الأذهان هو أنَّ هذا العطب ليس نتيجة مُباشرة لهذا "التدخل" الخارجي وحده، وإنما هو نتيجة لتضافر أسباب العطب التاريخية من وجه، وللآثار العميقة التي خلفها التدخل "الحضاري" الغربي العشوائي والمنظم من وجه آخر، وهي آثار مرتبطة ارتباطاً جلياً بحالة "الصراع" التي تتلبس العلاقات بين هذا العالم وبين عالم الغرب.
ومعنى ذلك، كما يقول فهمي جدعان، أنَّ المستقبل الآتي يتحدد بالأفعال التي نجريها في معطيات الحاضر، وبالاختيارات التي نأخذ بها من جملة الاختيارات الممكنة التي يأذن واقع الأشياء من حولنا بالإقدام عليها. ذلك أنَّ ثمة قاعدة لا يُمكن لنا أن نتجنبها، وهي أن من الضروري إقامة "تراسل" بين موضوع إرادتنا أو شهوتنا من جهة أولى، وبين قدرتنا أو استطاعتنا على تحقيق هذا الموضوع من جهة ثانية، وبين استعداد "شروط" الواقع لتقبل موضوع هذه الإرادة أو الشهوة من جهة ثالثة. وغياب أيَّ طرف من هذه الأطراف يحكم على جملة القضية بالسقوط. لا شك أنَّ أصحاب الإيديولوجيات المتصلبة لن يتحملوا مثل هذا النهج في التفكير وفي الفعل. إن هؤلاء يفترضون أنَّ الواقع هو الذي ينبغي أن ينصاع للأفكار، لا أن الأفكار هي التي يجدر بها أن تطيع الواقع.
وللحديث بقية...