مدرين المكتوميَّة
في زاوية بعيدة جدًّا عن الأنظار في معرض مسقط للكتاب، وعلى الرَّغم من اتساع المكان وتوافد الناس عليه، تأخذ طفلة صغيرة مكانها في تلك الزاوية التي لا يُمكن لأحد أن يلمحها الا بالصدفة، تلك الزاوية التي تُغطِّي نصفها "الكراتين" الهائلة من الكتب، كانت فتاة جميلة وصغيرة هاربة من صَخَب المكان وإزعاج الآخرين لها، تعبتْ من المحطات التي تقف عندها عائلتها الكبيرة بين دار نشر وأخرى، فقرَّرت التمرُّد وأخذ زاويتها ليتسنَّى لها الوقت لتلوين "سنو وايت"، شخصيتها الكرتونية التي تُحب، تلوِّن بعُمق واهتمام، تتحدَّث مع نفسها، وأنا هُناك أرقبها أيضا دون أن تشعر وكأني أسرق منها لحظاتها، كانت "سنو وايت" أيضا جميلة بفستانها الهادئ الأزرق وعينيها المتسعتيْ الإحداق، تلوِّن بعُمق وتنتقي كلَّ ما يليق بفتاتها المدللة، وكأنها تصنعها لتصبح حقيقية. ويُمكنني الجزم بأنَّها ستصبح يومًا فتاة عبقرية ومتمرِّدة على الواقع المعاش لتصنع نفسها دون الاكتراث لما يراه الآخر، ويفكر به حيال ما تقوم به.
تلك الفتاة الصغيرة والجميلة مُلهمة لدرجة كبيرة، ملهمة للبقاء في المكان، والبحث عن أنفسنا بين الزحام؛ لذلك قرَّرت جَعْل معرض مسقط الدولي للكتاب مكانا لأبحث فيه عن نفسي أولاً، لأرى أناسا جُدد وأتعرَّف على الآخرين بعيدًا عن الروابط الملتزمين بها، والتي تُجبرنا أحيانا على التعامل وفق ما يتطلبه منا المكان، قرَّرت التعرف على الناس، بعيدًا عن التكلف، لأتعرف على اهتمامتهم من خلال ما يقتنونه من كتب؛ لأجد نفسي بينهم أيضا أبحث عن ذاتي، فأجدني أجري بين دار وأخرى لأقدِّم التحية عليها وعليه وعليهم أيضاً؛ لأقدِّم نفسي للجميع، ولأفتح لنفسي مجالا للاستماع لمواضيع أكثر متعة وأكثر اختلافا من تلك التي اعتدنا عليها، مواضيع لها طابع استثنائي وطابع شيق ومغاير وأكثر روعة، لأستطيع أن أرى اهتمامات الآخرين ومزاجياتهم البعيدة عن مكاتب العمل خلف الطاولات الكبيرة والقاعات الضخمة، والأوراق المكدسة؛ فهناك كانت الصدمة، فوجدتُ الجاد فيهم يبحث في الروايات العاطفية ويقلِّبها، والهادئ يقرأ في السياسة، أما المَرِح فتجده يقرأ في القانون والفلسفة، في حين أجد تلك الفتاة التي كُنت أظنها ساذجة، أكثر مني بكثير ذكاءً وتمرسًا، والكثير الكثير من المشاهدات التي لا أتوقع أن تتسع لها المساحة.
كما كان هناك من يجتهد لإنجاح فعاليته، وآخر ينتظر خلف الميكروفون للبدء، وهي تبحث عن ضيف ليجيب عن تساؤلاتها، وكل ذلك في إطار الاهتمام بالآخر، كلٍّ على طريقته؛ فلو فكَّرنا قليلا لوجدنا أننا لا يمكن أن نعيش بمعزل عن الآخرين، وأنَّهم جُزء لا يتجزَّأ من طبيعة حياتنا وتكويننا؛ لذلك وجب أن نهتم لأمرهم وطريقة إسعادهم.
لم يكن المعرض والدور والكتب هي المغرية فقط، فهناك القهوة بكل مزاجاتها وأذواقها المختلفة، التي تعطي للمكان روعته، وجاذبيته؛ فبكل بساطة يُصبح المعرض مكانًا للارتياد اليومي، والجلوس فيه أكثر من أي مكان آخر، خاصة لأولئك الذين يتعاملون مع الكتاب كمعشوقهم، والزمان مجرم يسرق منهم أجمل لحظاتهم التي لا تتكرَّر.. فشكرآ لكل الجهود المبذولة في إقامة هذا المعرض، وشكرا لكل الرائعين الذين جعلونا نشعر بقيمة المكان؛ فقد جمعنا بكل من لم نلتقِ بهم منذ زمن بعيد.
madreen@alroya.info