خير جليس وأفضل متعة

 

 

عيسى الرَّواحي

هُناك مواضيع يجد الكاتب صعوبة من أين يبدأها وأين ينتهي المقام بها، وماذا عسى أن يكتب عنها، خاصة تلك المواضيع التي تتزاحم فيها الأفكار، وتعظُم فيها الشواهد، وتتوافد حولها العبارات. ولعل الحديث عن القراءة أحد المواضيع التي لا يُمكن أن يُعطيها الكاتب حقَّها ويوفيها قدرها من الأهمية والاهتمام، ويستوعب قلمه مكانتها وقدرها الجليل، ويبلغ شأوها الشامخ، وطودها الراسخ.

ويكفي القراءة قدرا وإجلالا وعظمة وقيمة ومكانة أن كانت أول أمر إلهي في أعظم كتاب خالد نزل على أعظم مخلوق على وجه البسيطة محمد صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ"، وفي هذا ما يكفي دليلا واضحا وبرهانا ساطعا على ضرورة القراءة للنوع البشري المكرم بالعقل، وأهميتها في سير الحياة وتقدمها، وحضارة الشعوب وازدهار الأمم.

بالقراءة تتبدد ظلمات الجهل، وتندرس زيغ التخلف والخرافات والأوهام، فتشرق الدنيا بنور العلم والمعرفة، وتتجلى لها أنوار الحقائق والعلوم، وتصل الأمة إلى ذرى العلياء وسنا المجد.

بالقراءة يستنير العقل ويتجدد الفكر وتتسع المدارك وتكثر الإبداعات وتتوالى الاكتشافات وتتعاظم إنتاجات الفكر والثقافة والأدب، وبالقراءة يجد الذهن حافزا للنشاط والعطاء، وتجد النفس السعادة والمتعة والتسلية والهناء.

بالقراءة تحل المشاكل والخطوب، وتتلاقى ثقافات الأمم والشعوب، وتتبادل المعارف والعلوم، وبها يولد المثقفون والأدباء والعلماء والمخترعون والعظماء والخالدون، فتكثر الإبداعات الأدبية والإنتاجات الفكرية والمصنفات العلمية والاختراعات القويمة والصناعات الرشيدة.

بالقراءة يجد صاحبها حياة أخرى غير الحياة المعهودة التي يحياها، حياة فيها الأنس الجميل واللذة الفريدة والمتعة الفائقة والفائدة البالغة، ومن ذاق طعم القراءة عن رغبة وقناعة فإنه هيهات هيهات أن يفارقها أو يتخلى عنها ولو جالدوه عليها بالسيوف، ومن صادق الكتاب واتخذه خليلا ورفيقا فقد فاز بالصحبة الطيبة والصداقة الصادقة والرفقة الصالحة، ولن يجد جليسا خيرا من مجالسته، ولا أنيسا خيرا من مؤانسته، فلن يتركه في سفره وحضره، في غناه وفقره، في صحته وسقمه، في شغله وفراغه، يضفي عليه من فوائده وفرائده ومتعة حديثه ما يطرد به الهموم، وينسى به الآلام، وتتوسع به الأفهام، فيعلمه إن جهل، وينصحه إن زل، ويرشده إن ضل، ويسبح به في سموات الفكر وفضاءات العلم ونتاجات العقل.

بالقراءة يكون للفرد مكانه وسلطانه، وبالقراءة يبلغ مجده ويعلو شأنه، وبالقراءة يزدان فكره ويرتفع قدره، وبالقراءة يغلب خصمه ويسود قومه وأقرانه، وهكذا الأمم بالقراءة تعلو وتقوم لها قائمة المجد والعلياء والقيادة؛ فالأمم القائدة هي الأمم القارئة، والشعوب المتقدمة هي الشعوب القارئة، وواقع الحال خير دليل وبرهان؛ فلما تعلقت أمم الغرب بالكتاب وأدمنت القراءة رغم بعدها عن الإسلام فإنَّ الله أكرمها بمتع الدنيا الكثيرة كوننا أمما قارئة، وما وصلت تلك الشعوب إلى ذرى الاختراعات الهائلة والاكتشافات البديعة وقادت العالم إلا بكرامة القراءة؛ فمن قرأ فالله يكرمه "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ" وكرامات الله تعالى لا حد لها ولا عد.

ولا ريب أنَّ الأشياء بضدها تعرف، وأن الأمم والشعوب التي لا حظ لها من القراءة، وبينها وبين هذه الصفة السامقة المجيدة هجرانا كبيرا، وبينها وبين الكتاب جفاء بعيدا، فإنَّ مصيرها إلى زوال ولا قيمة لها بين الأمم ولا مكان، ولا اعتبار لها ولا شأن، وسيكون مآلها التخلف والانحطاط والرجعية، فيستبد بها الجهل، ويعم حولها الظلام، وسيكون نتاجها عقولا سخيفة، وأفكارا عقيمة، وغوغائية مستحكمة، وانهزامات متوالية، وضياعات مستمرة، واهتمامات تافهة بليدة، وأهدافا ساقطة ساذجة، وأوقات ضائعة مهدورة وهذه حال كثير من أمم وشعوب العرب والمسلمين؛ لأنهم تخلوا عن أول أمر إلهي يضمن لهم عزتهم وتقدمهم ورقيهم ومكانتهم شعوبا كانوا أم أفرادا.

إنَّنا إذ نعيش هذه الأيام في هذا الوطن العزيز أكبر التظاهرات الثقافية الفكرية السنوية وهي معرض مسقط الدولي للكتاب؛ لجدير بكل فرد ظلم نفسه في هجران القراءة وجفاء الكتاب أن يصحح مساره، ويصوب خطأه، ويبدأ عهدا جديدا في حياة أجمل وأيام أسعد وفكر أنقى وذهن أصفى وتسلية أمتع وصحبة أفضل وصداقة أجمل مع الكتاب خير جليس، ومع القراءة أفضل متعة... والله المستعان.

issa808@moe.om