الحداثة مَطْلب لا غنى عنه لأي أمَّة شريطة أن تنطلق من واقعها وفكرها ورؤيتها للقيم الذاتية
عبدالله العليان
لا شكَّ أنَّ النهضةَ في الغرب انطلقتْ من واقعها المتخلِّف، وعملتْ على إقصاء عصر الكنيسة التي حاربتْ العِلْم والتقدُّم، وأسَّستْ لحداثة تتناسب وعصرهم وثقافتهم، أو ما سمُّوه هم بالإصلاح الديني، الذي سَبَق عصر الأنوار ومهَّد للحضارة الغربية التي انطلقتْ منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر، والإسلام يختلفُ عن الكنيسة في رؤيته للنهضة والتقدُّم، ولم يُحارب العلم والتقدمُّ، حتى إنَّ المفكر مُحمَّد أركون -وهو من الناقدين للفكر الإسلامي في الكثير من كتاباته ومؤلفاته- قال بإحدى محاضراته إنَّ "الإسلامَ عندما ظَهَر كان يُمثِّل حداثة". مضيفا في فقرة أخرى من نفس الورقة: "إنَّها تعني الحركة والانفجار والانطلاق. هذا شيء أساسي جدًّا لكي نفهم جوهر الحداثة وماهيتها".
وبالتالي؛ فالإسلام في زمن النبي ولحظة انبثاق الخطاب القرآني كان يُمثل تغييراً، بل وتغييراً جذرياً بالقياس على ما قبله. وكان يُمثِّل حركة تاريخية مندفعة بكل قوة وانطلاق، على كافة الأصعدة".
ويرى د. فهمي جدعان في كتابه "المقدس والحرية" أنَّ "مطالع النهضة في بلادنا -العربية- قد فَتَحت عيونها واسعة على ماهية الحداثة الغربية ومخاطرها. وكانت الاستجابة "التركيبية" التي عبَّر عنها الأوائل استجابة أولية أصيلة تمثَّلت في هاجس التكيف مع الحداثة العلمية والاختبارية أو التقنية. وفي الاستجابة، أستدعي الإسلام نفسه ليس فقط لتسويغ تمثل العلم الأوروبي والتقنية الأوروبية، وإنما أيضاً لتوجيه الحياة الإسلامية نفسها والسير في محور التراث-والحداثة. ولم تكن هناك استجابة نظرية فحسب، بل كانت عملية أيضا، والتنظيمات والإصلاحات التي تمَّت الدعوة إليها والحث عليها خير شاهد على هذه الاستجابة الكيفية العملية. وليس بالأمر الجديد أن نقرِّر أنْ جُملة الدول التي قامتْ في عالم الإسلام في الحقب العثمانية أولاً، ثم غداة الاستقلال عن الدولة العثمانية في مرحلة أولى، وتحرُّر الدول الاستعمارية في مرحلة ثانية، وقد وضعت نصب أعينها -على الأقل- أهدافاً عملية أساسية تتجسَّد في التطوير والتنمية المستندين للعلم والتقنية، أي الحداثة. أمَّا الإنفاذ الفعلي لهذه المقاصد المعلنة والنجاح في إدراكها، فذلك أمر آخر".
لكنَّ جدعان يرى أنَّ أخذ الحداثة بكل مقوماتها في عالم الإسلام، قد لا نراه متحققاً بصورة كاملة في مجالاتها العلمية والعقلانية، ويرى أنْ "لا أحد يستطيع أن يزعم أنَّ الاستجابة المتمثلة في العقلانية الموضوعية وفي العقلانية الاختبارية أو الذرائعية قد شملت جميع الوجوه المجسَّدة في الواقع بمعناها الأصلي. ويحق لنا أن نقول على وجه العموم إنه برغم الصعوبات التي انتصبت مرات كثيرة في وجه هذه الجهود، فإنَّ النتائج الفكرية -كما يقول جدعان- والتي أفضت إليها قد أصبحت وقائع راسخة في حياة عالم الإسلام وأهله.
فليس ثمَّة من أحد اليوم في الفضاءات الإسلامية نفسها يتنكَّر لوقائع العلم والعقل، ولأمر التنمية والتقنية، ولخيرات الحداثة المتعلقة بالمنافع المتولدة عن تطور العلم والتقنية. وأولئك الذين يتعلقون بأشكال من الاجتماع البشري تأبى الانخراط في تجربة الحداثة بجملة وجهها لن يجدوا في المستقبل المنظور من يصغي إليهم، وهم لن يستطيعوا إنفاذ رؤاهم إلا إنفاذاً فردياً ينحرف بهم إلى الدوائر الصوفية وحدها.
غير أننا نخدع أنفسنا خداعاً تاماً إنْ اعتقدنا بأنه قد تم تمثل أنماط السلوك الحداثية تمثلاً حقيقياً، حتى عند أولئك الذين أعلنوا عن إيمانهم بهذه الأنماط ومبادئها. ذلك أن الإنفاذ العلمي لمبادئ الحداثة التي تم تقبلها والاعتراف بها، لم يجرِ على نحو "حقيقي، إذ بدا في أغلب الأحيان صورياً أو شكلانياً يتعلق بالمظهر لا بالجوهر. فهواجس الموضوعية والعقلانية والنظام والإتقان والحرية والعدالة والديمقراطية... لم تحتل الأمكنة الثابتة الخاصة بها في سُلَّم القيم التي تتطلب ممارستها في الحياة الفردية والاجتماعية المشخصة، ومفارقة النظر والعمل، والإيمان والفعل، واقعة حقيقية تتطلب المعالجة وتنتظر العلاج الحسي المشخص". ويعتقد د.جدعان أن واقعنا في مسألة الحداثة وما بعدها، كما لم يتغير، في التحولات الفكرية والاكتشافات العلمية في الغرب فـ"الحقيقة أن وضع العالم الإسلامي قبالة ظاهرة (ما بعد الحداثة) لا يختلف اختلافاً بيناً عن وعيه قبالة "الحداثة"، فضلاً عن أنه ليس وضعاً غريباً، أو لا نظير له. ذلك أن الإرث الثقافي والقواعد الاعتقادية للإسلام قد سمحا -وفق قراءة عقلانية مشروعة- بتحقيق قدر عظيم من "التمثل" لمعطيات الحداثة ومن "التكيف" مع متطلباتها.
فعلى الرغم من أن الحداثة الغربية كانت ضرباً من القطيعة مع التراث المسيحي والوحي الديني -كما يرى جدعان- إلا أنها في حقيقة الأمر لم تكن تعني في ماهيتها وطبيعتها الجوهرية شيئاً أكثر من هيمنة المنظورات العقلانية والتقنية والفردية وتوجيهها للحياة الاجتماعية والعام". لكنَّ المفكر المغربي المعروف د.طه عبد الرحمن يختلف مع د.فهمي جدعان، ويعتقد أنَّ الحداثة المستجلبة من الغرب وتطبيقها دون محاذير سيكون لها تأثيرها السلبي في حياة كل الأمم، ففي كتابه "روح الحداثة..المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية"، يقول إنَّ روح الحداثة كمصطلح -كما يقال عنها- ليست دائما "من صنع المجتمع الغربي الخاص حتى كأنه أنشأها من عدم، وإنما هي كما يقول د.طه عبد الرحمن، من صنع المجتمع الإنساني في مختلف أطواره؛ إذ إنَّ أسبابها تمتد بعيداً في التاريخ الإنساني الطويل؛ ثم لا يستبعد أن تكون مبادئ هذه الروح أو بعضها قد تحققت في مجتمعات ماضية بوجوه تختلف عن وجوه تحققها في المجتمع الغربي الحاضر؛ كما لا يبعُد أن يبقى في مكانتها أن تتحقق بوجوه أخرى في مجتمعات أخرى تلوح في آفاق مستقبل الإنسانية. وليست روح الحداثة -أيضا- مِلكاً لأمة بعينها، غربية كانت أو شرقية، وإنما هي ملك لكل أمة متحضرة، لكل أمة -بحسب طه عبدالرحمن- نهضتْ بالفعليْن المقوِّمين لكل تحضر، وهما: "الفعل العمراني" -وهو الجانب المادي من هذا التحضر- و"الفعل التاريخي" الذي هو الجانب المعنوي؛ ولا شك أن الأمم تختلف في درجة تحقيق هذين الفعلين بحكم تراكم المعارف وتجدُّد القيم عبر القرون، من غير أن يدل هذا التراكم والتجديد بالضرورة على أنَّ المتأخر من الأمم أفضل من المتقدِّم؛ نظراً لأنَّ هذه الأفضلية لا تقاس بالقوة، وإنما بالقوة المعنوية؛ لذلك فإن التطبيق الغربي لروح الحداثة، ولو أنه متأخِّر عن غيره، لا يكون بالضرورة أكثر تمسُّكا بروح الحداثة منه؛ بل ليس تأخُّر التطبيق، على وجه العموم، دليلاً على مزيد التحقق لهذه الروح؛ فحتى التطبيق الذي سوف يأتي بعد الواقع الحداثي الغربي لن يكون حتماً أكثر تشبعاً بروح الحداثة"، ولاشك أنَّ الحداثة والنهضة والتقدم حدثَ كل هذا في العديد من دولنا العربية.
ولا شك أنَّ هذا مَطْلَب لا غنى عنه لأي أمة من الأمم، شريطة أن ينطلق هذا التحديث والتقدم من واقعها، ومن فكرها ورؤيتها للقيم الذاتية، وإلَّا أصبحت هذا الرؤية مضطربة ومتوترة، وهذا ما يجب مراعاته والنظر إليه بجدية.