تضحية من زمن مضى

 

علي بن كفيتان بيت سعيد

في أحد المساءات كُنت في جولة غير مُحددة الهدف أقود مركبتي فحسب وحان وقت صلاة العصر لفت انتباهي قرية ريفية بها عدة بيوت ريفية مُعظمها مبنية بالمواد غير الثابتة فدحرجت سيارتي متردداً تجاه تلك القرية وأقنعت نفسي بأنها ستكون استراحة للصلاة ومن ثمَّ سأعاود طريقي. 

اتخذت القرار بأن أقف عند أوَّل بيت وأن أحل على أهله ضيفاً خفيفاً عندما أوقفت مركبتي تقدم إليّ عدد من الأطفال مُرحبين وكأنهم يعرفونني وهذا قلل من ترددي في النزول، أمسكت بي طفول الصغيرة بينما الآخرون يشيعونني تجاه البيت وعندما اقتربت رفعت صوتي مستأذنًا بالدخول فرحَّبت بي امرأة شابة عرفت لاحقًا أنها أم طفول ومحاد وآخرين فدخلت لدورة المياه المتواضعة وتوضأت ثم صليت العصر في طرف الصالة بينما الأم تسابق الزمن لتنظيف المكان بمكنسة يدوية مصنوعة من سعف النخيل في الوقت الذي وضعت فيه الشاي على النَّار. 

بعد انتهائي من الصلاة استقرت طفول الصغيرة والمشاكسة بجانبي وأمطرتني بسيل من الأسئلة الشخصية، وهنا بادرت وأخبرت السيدة المتوترة بأنني فقط كنت عابراً وأردت أن أودي الصلاة وسوف أغادر فاعتذرت بكل حياء عن تواضع المسكن الذي يعيشون فيه ولاحظت تغير وجهها معبرة عن تواضع المنزل، فأصرت أن أبقى حتى أشرب الشاي الذي بات على نار الحطب في مطبخ الأسرة الذي بُني بأعمدة حديدية يعلوها طربال أزرق، ورأيت من اللباقة والأدب الذي تعلمته من بيئتي الريفية أن أظل وأقبل ضيافة هذه السيدة المُكافحة.

بعد لحظات أصبح الشاي جاهزاً فقدمته لي هذه السيدة الفاضلة وهنا تجاذبنا أطراف الحديث بحضور ابنها الأكبر محاد الذي وشوشته في أذنه فذهب محاد الذي لم يتجاوز سن العاشرة وكنت أرقبه من طرف باب الصالة حتى وصل إلى الناقة فقام بفك الحبل الواقي لضرعها وحلبها بينما طفول الصغيرة تمسك بالإناء بيديها الاثنتين والإناء على رأسها حتى تساقطت عليها رغوت الحليب من طرفي الإناء، حاول كل أفراد هذه الأسرة البسيطة إكرامي بكل طاقتهم وهم لا يعرفوني ولم يسألوني لماذا أتيت أو من أين أتيت، وحلفت عليَّ أم محاد بأن لا أغادر حتى يأتي رب المنزل الذي ذهب لإحضار الماء بسيارته من بئر حكومي بعيد، كم كان الشاي لذيذاً لأنّه طبخ على الحطب وبمقادير دقيقة وكم كان الحليب غنياً بالطعم المميز لأن محاد كان حلابا محترفا وناقته كريمة ككرم أهله البسطاء.

في هذه اللحظات قدمت سيارة بيك أب مُتهالكة مُحملة بخزان مملوء بالماء إنّه أبو محاد هنا تنفست السيدة الصعداء بينما ركض صوبه أبناؤه ومعهم الأنبوب البلاستيكي الذي يوصل الماء من السيارة إلى الخزان الأرضي، نزل من السيارة رجل متوسط العمر ويلبس جاكيت عسكري يعود للفرق الوطنية فالوقت كان شتاءً والمكان قارص البرودة، هنا قدم أبو محاد إلينا وكانت الابتسامة على وجهه مرحبًا بي حتى قبل أن يُسلم عليّ مما قلل من كمية الحرج الذي كان ينتابني، جلس جانبي وقدمت له كوب من الشاي من الإبريق القديم القابع أمامنا.

حاولت الوقوف مستأذنًا بالمغادرة فحلف عليّ الرجل أن أظل معهم حتى المساء كون الطريق بعيدة كما برَّر لي طلبه بأنَّه وحيد هنا وهذه فرصة للحديث مع أحد آخر غير عائلته الصغيرة فوافقت على مضضٍ وهنا خرجت عجوز من غرفة مجاورة بيدها اليمنى عصا وبالأخرى إبريق معدني أبيض لامع سلمت علينا بصوت خافت وخرجت لكي تصلي في الخارج استأذنني الرجل لإطعام مواشيه وأنا خرجت وجلست عند العجوز التي تسبح على سجادتها الخضراء بالقرب من البيت رحبت بي وهنا بدأ الحديث الدامي. 

سألتها هل هذا ابنك؟ أجابتني بأسى شديد ليت عندي ابن ثم استدركت نفسها قائلة مهما يكون الرجال فلن يكونوا رحيمين بي مثل سهيل وزوجته إنه ابن أخي، في هذه اللحظات رأيت العبرات في عينيها التي أنهكها الزمن وهي تذكر لي إخوانها الأربعة فقد كانوا مثلاً للشجاعة والإقدام حيث مات أكبرهم في حادثة الغريقة المعروفة في ظفار التي لقي فيها عدد كبير من المهاجرين الظفاريين نحبهم في عرض البحر عندما غرقت سفينتهم والتهمهم البحر بينما كانوا يبحثون عن مستقبل أفضل في الخليج.

أما مسلم فكان ضحية ثأر قبلي دفع بموجبه حياته دون أن يقترف ذنباً سوى أنه كان أشجع رجال القبيلة ففي ذلك الزمن الذي تسوده القوة والقسوة كما تقول العجوز لم يجد المغيرين أفضل من مسلم أخي لكي يستوفوا ثأرهم فقتلوه غيلة من بعيد بعدة رصاصات وكنت معه نرعى الإبل ذهبت إليه مسرعة وأخذته في حجري فقال لي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وصيتك بأخوي الصغيرين سالم ومحاد ويقول أما أنا فلست معكم بعد اليوم وغادرت روحه الدنيا فتنهدت وحلقت في السماء لكي تتحاشى سقوط دموعها أمامي.

هنا سكت أنا قليلاً احتراماً لمشاعرها وصمتت هي بضع دقائق لتعاود الحديث مجددًا فقالت عملت بوصيته ورفضت الزواج من الكثير من الرجال الذين أتوا لخطبتي لكي أقوم على تربية سالم ومحاد وكبرا على يدي حتى أصبحا شابين يافعين ثم دخلت المنطقة في منعطف جديد فقد قامت الثورة وأنضم لها مُعظم الناس في الريف ومنهم أخي محاد بينما أقنعت سالم بالبقاء معي ومنذ ذلك التاريخ لم نعد نرى محاد إلا بعد عدة أشهر ويأتينا لبضع ساعات وفي آخر زيارة ذكر لي بأنَّه تزوج من مناضلة وهي حامل ففرحت كثيرًا رغم خوفي الكبير عليه من الموت وعندما يأتي كان يحضر لنا مؤونة تكفينا لعدة أشهر ويحضر معه عدد من رفقاء النضال، تقول الجدة اشترى لي أخي سالم مذياعاً وكنا كل مساء نتحلق حوله لنستمع لإذاعة صوت الثورة الذي يُبث من عدن ليس كوننا مؤيدين ولكن لمعرفة أسماء الذين قضوا في المعارك المستعرة في تلك الفترة بالمنطقة الغربية من ظفار، في مساء حزين بينما كنت أقبع بجانب المذياع سمعت اسم أخي فبكيته كثيرا وقلت لسالم يجب أن نقوم برعاية زوجته علها تنجب لنا ولداً يحمل اسمه وفعلاً ولدت زوجة محاد وأنجبت صبياً وسميناه سهيل على جدي ولقد تعهدته منذ صغره وهذا هو الذي تراه أمامك اليوم رجل البيت حفظه الله واسمى ابنه محاد على أبيه وكانت تفتخر بذلك ولكنها قالت لن يكون هناك رجل مثل أخي أبداً.

مرت الأيام وأنضم سالم الأخ الأخير للثورة في آخر مراحلها حاولت أن أمنعه ولكنه رفض وقال أنا لن أكون أغلى من محاد وكل الذين قضوا في هذه الحرب كان لا يبعد عنّا كثيرا ونكاد نراه يوميًا إما على مورد الماء أو في المنزل عندما يأتي متخفياُ في الليل ويحضنني ثم يأخذ سهيل في حجره ويغني له أغاني الدبرارت الريفية بهمس وأخبرتني العجوز بعدد من تلك الأغاني الحزينة التي ينعي فيها سالم إخوانه.

تقول الجدة في ذات مساء بعد المغرب سمعنا عدة طلقات من الوادي الذي خلف بيتنا (وأشارت إلى مكان قريب من مكان جلوسنا) وتقول فذهبنا مسرعين وإذا به سالم مُقيد اليدين وقد اخترقت طلقتين رأسه وجنبه بندقيته الكلاشنكوف وبذلك فقدت أخي الرابع ولم يبق لي بعد الله إلا سهيل الذي أمامك وهذه قصتي يابني.

 ملاحظة: الأسماء الواردة بهذا المقال رمزية لحفظ الخصوصية.

حفظ الله عمان وأدام على جلالة السلطان نعمة الصحة والعافية.

                                                                                                           

alikafetan@gmail.com