عبيدلي العبيدلي
تجتاح الشارع البحريني اليوم موجة عارمة من الاستياءات، تعبر عن نسبة لا بأس بها منها محتوى قنوات التواصل الاجتماعي من صور كاريكاتيرية، ونصوص مختصرة، ويكشف عن بعضها الآخر الأنشطة الاجتماعية التي تفتح المجال أمام نقاشات تتناول الوضع الحالي من مختلف جوانبه السياسية والاقتصادية، بل وحتى الاجتماعية. خطورة هذه الحالة عندما تتفشى في صفوف المجتمع أنها تتطور، وبشكل سريع، إلى سلوك تشاؤمي يحجب الرؤية عن أنظار الجميع، ويدفعهم نحو نفق مظلم، يقودهم نحو هاوية اليأس.
ليس هناك من بوسعه أن ينكر أنّ الأوضاع الحالية في البحرين لا تسر أحدا، وهي ليست تلك الصورة الوردية التي نحلم بها. نتحمل جميعا بعص مكونات الصورة، ويتحمل بعضها الآخر الظروف الموضوعية التي اجتاحت المنطقة العربية، ولم يكن في وسع البحرين أن تكون بعيدة عنها، ومن ثم بتنا نرى بصماتها الواضحة على مجمل أوجه الحياة، وعلى وجه الخصوص شقها الاقتصادي، الذي بات ينهك الدولة والمواطن على حد سواء.
بداية لا بد من لفت النظر إلى ضرورة التخلص من المدخل التيئيسي الذي من شأنه، إذا ما استمر، أن ينشر حالة شلل مزمن، ينذر بتحويل قوى المجتمع النشطة إلى مومياء محنطة غير قادرة على الفعل، وتكتفي بزيارة الناس لها، والحديث عن تاريخها خلال الفترة الذهبية من عصرها قبل أن تودع التابوت، وهو مرض يحصر ذهنية المواطن في التاريخ ولا يسمح له بمشاهدة لوحة المستقبل.
بعد ذلك ننطلق نحو مسلمة ثانية وهي أنّ حركة تطور المجتمعات، وخاصة الحية منها والتي تحمل على كتفها تجربة غنية من التحولات الإيجابية، ليست شكلا هندسيا ثنائي الأبعاد، تسيره معادلة علاقة طردية بين الزمن والتطور، بل هي مسيرة معقدة تسيطر على معادلة طريقها مجموعة فاعلة من الالتواءات على الصعيد الأفقي، والهبوط والارتفاع على الصعيد العمودي، ومن ثمّ فهي، أي حركة تطور المجتمعات، تخضع لمعادلة ثلاثية الأبعاد، على من يريد أن يساهم في تطوير المجتمع أن يتقن التفاعل مع ثوابتها ومتغيراتها وفي اتجاهات مختلفة، ربما تبدو متناقضة، لكنها تسير في هارمونية متناسقة.
تقودنا هاتان المسلمتان نحو ثالثة، في غاية الأهمية، وهي أن على من يريد أن يقود عملية التغيير نحو الأفضل أن يحسن الإمساك بلجام حصانه كي يكون قادرًا على الوصول إلى الأهداف التي يطمح لتحقيقها. ومهارة الفارس في سوس فرسه لا تظهر في الأراضي المنبسطة والسهول الفسيحة، بل يثبتها عند المنعطفات الحادة، وعند الطرق الملتوية الوعرة. وعلم السياسة يقوم على فن القدرة على التغيير في حالات الأزمات والشدائد وليس في مراحل الرخاء والانفراج.
توصلنا هذه المسلمات الثلاث نحو مسلمة سلبية باتت تتفشى في صفوف القوى السياسية البحرينية، وهي أن البحرين دولة متلقية فحسب، تتلقى محصلة إفرازات الوضع الإقليمي. صحيح أن البحرين ليست في عداد الدول الإقليمية الكبرى التي تمارس دورا فاعلا في صنع الحدث ورسم خارطة منطقة الشرق الأوسط، لكنها بحكم تطورها التاريخي، لها دور، وإن كان غير متساو، يقوم على التلقي والإرسال أيضا، وخاصة عندما يتعلق الأمر بواقعها الداخلي. فهناك هامش محلي، مهما بلغت ضآلته، يتيح أمام القوى السياسية البحرينية قدرا لا بأس به من الحركة من أجل التغيير.
هذه المسلمات ترفع أمامنا علامة استفهام في غاية الأهمية وهي هل أمام البحرين اليوم، وهي تعيش ما تعيشه، فرصة سانحة من أجل الخروج من شرنقة ما يوصفه البعض بأنه أزمة؟ خانقة أم أن الظروف لم تنضج بعد من أجل نقلة إيجابية تأخذ بيد البلاد نحو ما يحلم المواطن برؤيته؟
منطق التغيير يملك ردا إيجابيا على مثل هذا التساؤلات، ومسيرة البحرين التاريخية تعطي شواهد حية على قدرة الحركة المؤثرة في نطاق هذا الهامش الضيق على الفعل.
لا داعي هنا لسرد قائمة طويلة من الأمثلة التاريخية القديمة والمعاصرة، ونكتفي بالإشارة إلى مشروع الإصلاح الذي وأد قانون أمن الدولة السيء الصيت، وجاء بميثاق العمل الوطني، ومعه دستور، مهما قيل عنه، لكنه كان خطوة إيجابية على الطريق الصحيح. لم تكن الظروف الإقليمية حينها تشجع الإقدام على هذه الخطوة، لكن البحرين كانت جريئة كي تقدم عليها.
هذا المنطق ينبغي أن يكون حاثا للقوى السياسية التي تريد التغيير أن تفتش بعناية ومهارة عن تلك الثغرات الإيجابية التفاؤلية التي تنتشر في جدار اليأس البحريني، كي تكتشف ما تحمله بين ثناياها من فرص تتيح أمام من يريد التغيير أن يستفيد منها، وإن كان ذلك على نطاق محصور، وفي إطار ضيق.
عليه يمكن القول إنّ هناك اليوم فرصة سانحة أمام نقلة نوعية، مهما كانت هذه النقلة صغيرة ومحدودة، لكن تأثيرها كبير وفي غاية الأهمية، كونها الرافعة الوحيدة القادرة على انتشال المواطن من حالة الإحباط التي من الطبيعي أن تقوده إلى حالة اليأس القاتل، إلى حالة تشيع الأمل وتفتح آفاق العمل.
ليس هناك من يجرؤ على ادعاء أنّ الطريق وردية ومفروشة بالورود، لكن في المقابل، ينبغي التحذير من الاستمرار في حالة السكون التي يسيطر عليها التشاؤم واليأس، فبينما تولد الأولى الرغبة في التغيير، والعمل من أجل التقدم، تشيع الثانية سلوك التدمير الذاتي، وتنذر بانتشار الطاقة السلبية المدمرة للفرد والمجتمع على حد سواء.
منطق التطور التاريخي للشعوب الحية، وشعب البحرين واحد من هذه الشعوب، يقول إنّ الفرصة اليوم سانحة من أجل انتشال المجتمع من تحت غمامة السلوك السوداوي الذي يجتاح نسبة لا بأس بها منه. وخطوة، مهما كانت قصيرة، نحو الأمام، خير ألف مرة، من الانتظار على الطوار أسرى نزعة التشاؤم التي لا بد من مغادرة رصيفها.
وعندما تسنح الفرصة، فهي بحاجة لمن يقتنصها، فإنها تمر مرور السحاب ولا تنتظر، ولن ترحم، من يتلكأ في الاستفادة منها.