الحب في الله

 

 

مريم اللمكية

 

الحب تلك العاطفة النبيلة السامية أوسع من أن يُحصر في دائرة ضيقة مغلقة وأقطابها شخوص معينون، أو أن يحصر في معنى ضيق أو أن يكون مشروطا. فالمحبة تتجلى وهي العاطفة السامية فيما هو أسمى من ذلك وأرقى من ذلك، فالحب عطاء والعطاء يعني البذل والسخاء، ولذلك فهو حين تدرك معناه ليس محصورا في نطاق ضيق أو دائرة أسرة أو قبلية أو عشيرة أو وطن أو قومية معينة فقط، ومن هنا نشأت الحاجة إلى غرس هذه القيمة للحب بمعناه الواسع في النفوس حتى لا تحصره بتفكيرها ووجدانها في شخوص معدودين أو مساحة ضيقة، وهي –أي النفوس- المحتاجة إلى ترجمة هذه العاطفة النبيلة لديها من منطلق تنشئة واعية وفهم أعمق لتسع معنى أن الحب بمعناه الأسمى يعني أن تحب الله مصدر خلقك وخلق هذا الوجود أجمع ومن ثم أن تحب ذاتك ومن حولك بل أن تحب كل ما حولك في هذا الوجود، لتحلق بك هذه العاطفة السامية من حدود ضيقة إلى عالم أوسع رحابة وفضاء أعلى أفقا حين تربط محبتك لذاتك ولمن حولك وما حولك من خلق ومخلوقات بحبك لله، أي في أبسط المعاني أن تمنحك هذه العاطف النبيلة في داخلك القدرة على أن تتعامل مع كل من حولك وما حولك بالرفق والتسامح والعطف والاحترام والتقدير، تتعامل معهم جميعا بالقيم بكل ما تحمله هذه الكلمة من فضائل سامية. فالله سبحانه وتعالى عندما خلق كل هذا الكون وأوجده خلقه بالحب والرحمة وغرس هذه المشاعر النبيلة فطرة في مخلوقاته. والتفاتة بسيطة منك لما حولك إلى عاطفة الأمومة والعلاقات التي تجمع بين أفراد الأسرة الواحدة أو المجموعة الواحدة انتهاء بأصغر المخلوقات وأدقها حتى تلك التي لا ترى بالعين المجردة تدلك على المحبة والرحمة التي فطرها الخالق عليها، وهي فطرة ورحمة ومحبة يتعلمها الفرد في مجتمعه الصغير ذلك ليحيا بها بعد ذلك في الخارج عند اندماجه مع أفراد ومجموعات أخرى خارج محيطه الذي نشأ فيه.

أتدرون يا رفاق حين نشتكي في هذا الزمان تحديدا من جفاء القلوب وتباعدها وتشتت الكثير من العلاقات الإنسانية حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، وصولا إلى عتمة الحروب والدمار التي صارت تخيم على العالم المعاصر، والذي من المفترض به أن يكون أرقى عاطفة وأسمى محبة باعتباره عالما أكثر تمدنا وتحضرا حين يقاس تمدنه وتحضره بمقياس التقدم والتطور المادي الذي وصل إليه، فإن مخيلتي تستدعي أحيانا بعض الصور أو الكلمات أو التعليمات المشوشة التي كثيرا ما يتلقاها الواحد منا من هنا أو هناك منذ نعومة أظفاره، بل وقد تُغرَس لدى البعض تنشئة .. قرأت مرة عبارة جعلتني أستحضر الآن صورة قديمة مازالت متداولة، والعبارة التي أقصدها كانت "كنت وأنا صغير أرسم سهما في قلب ...". أتذكرون صورة القلب الذي كان ولازال يرسمه البعض فيختم به رسائله أو مذكراته لصديق أو قريب أو حتى في نهاية خربشات عابرة في الطفولة والمراهقة، القلب الذي يخترقه سهم في وسطه من أين تعلّموه؟ ومن علمهم إياه؟ ولازال هذا التوقيع يحوز على إعجاب الكثيرين حتى في الوقت الحالي وإن اختلفت الصورة نوعا ما أو اعترتها لمسات أخرى للقلب الدامي حتى لدى البعض الأكثر نضجا، أكان لذلك تأثيره يا ترى في مخاطبة العقل الباطن - وهو الذي لا يميز بين الصح والخطأ- لدى من تعلم رسم تلك الصورة، أو من انطبعت لديه من كثرة ما شاهدها في رسالة أثرت فيه أو مشهد درامي أو غير ذلك. أوليس لتلك الممارسات وغيرها التي لم تجد من يقوم اعوجاجها أثرا فيما تمخض من نتاجاتها من تصرفات وسلوك وانطباعات؛ ومن ثم تحولها إلى اعتقادات بأنه من السهل أن تجرح غيرك وتؤذي مشاعره، ومن السهل جدا أن تتعرض للأذى أنت أيضا ولا بد أن تجرحك أبسط الأشياء؟ لربما لو تعلمنا مثلا رسم السهم بعيدا عن القلب أو رسم قلب من غير سهم أو قلب كبير وحوله قلوب أخرى نابضة من دون تشويش صورة القلب الذي يخترقه السهم، لكنا أكثر إتقانا في فن التعامل لمراعاة مشاعر الآخر أيًّا كان هذا الآخر بمحبة وتسامح ومودة حرصا لئلا يخدش السهم مشاعره، ولكنّا بعيدون عن عبثية المشاعر ولتعمق لدينا مفهوم أن المحبة عطاء غير مشروط، ولكنا أكثر إتقانا لتفعيل صمامات الأمان لنصبح أكثر تمتعا بروح رياضية لا تتجرأ على كسر أجمل الروابط الإنسانية لأبسط الأسباب، ولكنا مرهفي الحس تجاه الجمال أكثر من هشاشة أحاسيسنا ومشاعرنا تجاه المشاكل التي ضعف احتوائنا لها وتحجيم أسبابها فصارت صراعات لا تنتهي بين أفراد الأسرة أو العائلة الواحدة والمجتمع الواحد ثم العالم بأسره. وما صورة القلب الذي يخترقه السهم يا رفاق سوى واحدة من بين مئات أو آلاف الأخطاء التي عمقت في داخلنا الهوة بيننا وبين إنسانيتنا الشاعرة بطبعها المحبة للخير للسلام، وطمست عن الكثير منا أساليب تعميق فهمنا لطبيعتنا الإنسانية ومعنى الحياة وكيف نتقاسمها ونتشاركها ونعيشها مع كل من وما حولنا بمحبة وسلام.

وما أجل تلك التوجيهات الربانية والنبوية التي أجلت هذه العاطفة السامية الحب، فالله سبحانه وتعالى قد ذكر في القرآن العظيم هذه العاطفة السامية وشرف عباده الصالحين بهذه المحبة بإعلانه حبه لهم في محكم آياته. كما جاءت التوجيهات النبوية مربية للنفس مهذبة لها بهذه العاطفة السامية حين قال الرسول الكريم: "إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره، ليقل إني أحبك في الله إني أودك في الله" ومن ثم الرد عليه بالدعاء له "أحبك الذي أحببتني فيه". وتحت شعار هذه المحبة النقية في الله طابت نفوس الأنصار فشاركوا أخوانهم المهاجرين في أموالهم ولو كان بهم خصاصة فقامت دولة تأسست على المحبة والسلام الداخلي فيما بين أفرادها..

عني شخصيا ليس قصدا التبرئة من شيء معين أقول، ولكنني صدقا لم أرسم صورة القلب الذي يخترقه السهم؛ فروحي كانت لا تألف منظر هذه الصورة.

تعليق عبر الفيس بوك