في حضرة "شَمس التبريزي".. موجةُ الدِفءِ في الشِتاءِ العَنيد !

 

هشام الطيِّب

مع تباشير فصل الربيع، وعندما كانت الشمس قد شارفت على المغيب في الأراضي التُركيَّة كانت مدينة قونيَّة على موعد مع شروق شمس جديدة سطع نورها في دواخل مولانا جلال الدين الرومي؛ فأحالت ليله نهارًا، وأضحى يبصرُ من خلالها آفاقاً رحبة، وفتّحت في روحه مدارك الوصال، وعمّقت في قلبه اليقين وأدرك بعدها أن أبواب العشق والمحبّة قد أضحت مفتوحةً على مصراعيها.

     وصل "شمس الدين التبريزي" إلى قونية بعد طول مسير وكثير تعب، وصل بعد أن راح يضرب في الأسفار بحثاً عن خالقها، وهو يوقنُ، أيُّما يقين، أنه، مهما طالت به الأسفار وتعددت عليه الأماكن والأنحاء، فسيكون الله في داخله، يملأ قلبه حبّا ونورًا، مثلما هو في الأرجاء التي رأى والتي لم تخطر على باله ولا على بال بشر. وكان بذلك قد سنَّ قواعد عشقه الأولى التي تمخضّت عن تجربةٍ وتفكُر ودراية، حيثُ قال إنّه لا فرق بين الشرق والغرب والجنوب والشمال، كلهم سيَّان، فمهما كانت الوجهة، يجب أن تكون الرحلة التي نقوم بها رحلة في النفس. فإذا سافرنا في دواخلنا فسيكون بوسعنا اجتياز العالم الشاسع وما وراءه.

ولكن من هو شمس؟..

على الرغم من أنَّه توجد عشرات الحكاوي حول سيرته وعلى الرغم من تداخل المعلومات إلا أنّه من السهل عليك، تتبع سيرته، ومن السهل أن تتصوره في هيئة رجلٌ في نحو الستين من العُمر، رثَّ الثياب، شعره مُجعدٌ وطويل، وجهه شامخٌ كجبال عُمان، وبه ملامح كدح وتعب، عيناه تشعان بريقاً.  اسمه الكامل "شمس الدين محمد بن ملك داد التبريزي"، وهو درويشٌ متصوفٌ وشاعر فارسيُّ الأصل يُنسبُ إلى مدينة تبريز، ولد شمس في 1185 وكتب ديوان التبريزي (الديوان الكبير) في العِشق الإلهي، أخذ شمس التصوف عن ركن الدين السجاسي، وتتلمذ على يده مولانا جلال الدين الرومي.  ويقال إنه اختفى في ظروف غامضة وتوفي في عام 1248م. يوجد له قبر في مدينة خوي، بجانب نصب تذكاري وبحسب ما جاء في الموسوعة الحُرة "ويكبيديا" أن قبره رُشح ليكون من مواقع التراث العالمي لليونيسكو.

 (أنا البهلول .. أنا الدرويش

أنا الصافي .. أنا الإبريز

اسمي في السما العاشق ..

الناسُ تناديني .. شمسَ تَبْريز) ..

    لا يُمكن الولوج إلى سيرة شمس دون الإشارة إلى ما جاء على لسانه في بداية رواية قواعد العشق الأربعين لإليف شافاق حيث قال.."عندما كنت طفلاً، رأيت الله، رأيت الملائكة، رأيت أسرار العالمين العلوي والسفلي، ظننت أنَّ جميع الرجال رأوا ما رأيته، لكني سرعان ما أدركت أنهم لم يروا".  في سن العاشرة راودته رؤى وأحلام وكان يسمع أصواتا فحكى لوالده ذلك لكن لم يصدقه أحد، خرج بعدها من بيته في تبريز "إيران"، واتجه إلى سمرقند، وبغداد، وحلب ودمشق وكان يسأل نفسه مع كل خطوة يخطوها من أنا؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين أسير؟ ولماذا؟ وكيف؟ إلى أن وصل به المطاف إلى مدينة قونية في "تركيا"، التي قابل فيها رفيقه وخليله مولانا جلال الدين الرومي ذات نهارٍ استثنائي عذب في مُنتصف شهر نوفمبر من عام 1244م، على شارع من شوارع مدينة قونيَّة في "تركيا"، المدينة الضاجة بالحياة، وقف شمس متكئاً على آماله وتطلعاته، مترقباً لحظةً طال انتظارها.. فأقبل مولانا جلال الدين وخلفه طلابه ومُريديه، والتقى بشمس للمرة الأولى.. وكان ما كان من محبة ورفقة استمرت لوقت جميل.

(أنا الفقراءُ والشعراءُ والجوزاءُ والتنين ..

أنا الحضرة .. أنا الأقداس ..

أنا كل الذاكرين .. أنا الأنفاس ..

أنا المحفوظ .. أنا المكنون ..

أنا سر قولكَ كنْ ..

أنا فيكون) ..

  في أول لقاء لشمس بمولانا سأله عن ما إذا كان أبا يزيد البسطامي الذي له تقدير وإجلال لدى كثير من المتصوَّفة والذي يُلقبه البعض - بـ "سلطان العارفين" وقد نسبت إليه بعض الشطحات، كقوله "سبحاني ما أعظم شأني-  سأل شمس مولانا جلال الدين عن ما إذا كان البسطامي صادقاً في سيره على نهج المصطفى "ص" فلماذا لم يصنع مثله ولماذا قال "سبحاني" بدل قوله سبحانك؟ .

 وربما كان هذا التساؤل مدخلاً لحوارات عميقة دارت بين اثنتيهما فيما بعد وربما اختار شمس هذا المدخل لكثرة حديث الناس حول هذا الموضوع وانشغالهم بشطحات البسطامي آنذاك.

يقول شمس في قواعده، "يمكنك أن تدرس الله من خلال كل شيء" وكان قد اكتسب في سفره وتنقلاته العديدة معارف شتّى، وقابل أناساً كُثر، رأى فيهم تجليّات الحق، ثُم ذكر الله في مسيره، ليله ونهاره، وفي حلقات الدراويش، وتأمّل طبيعة الكون الساحرة، بكى وضحك، وتمايل راقصاً، وثمل حُباً إلى أن سما بروحه وتجلّى...

    الكاتب ر.أ نيكلسون قال في مقدمة كتابه "غزليات مختارة من ديوان شمس تبريز" : (لقد امتاز بحماس روحي شديد، مصدره الفكرة التي استولت عليه فجعلته يتخيل أنه مبعوث العناية الإلهية، وقد استطاع بواسطة ذلك أن يُسيطر على كل من قدم عليه أو دخل في مجلسه، وهو من هذه الناحية- ومن نواحٍ أخرى تتصل بحبسه المنقذ، وفقره المدقع وموته العنيف شبيه كل المشابهة بالفيلسوف سقراط فكلاهما استطاع أن يكشف لنا عن خطل العلوم الظاهرة، وعن شدة حاجتنا إلى التثقف والتنور، وعن قيمة الحب في حياتنا، وأن الانفعالات الشاردة والتحديات الجاهلة للقوانين الإنسانية إنما تؤدي إلى فقد الاتزان العقلي، والسمو الأخلاقي، اللذين هما مقياس التمييز بين الحكيم والمُريد).

      علاقة روحية وفكرية عميقة تكونت بين مولانا جلال الدين وشمس التبريزي، حيث تبدلت طريقة التفكير في النظر إلى الوجود، واختلفت طرائق العبادة، وزاد شوقه، فقد كان فقيهًا وعالمًا تقليدياً، مبجلاً، وكان محبوباً وذا شأن يحظى بتقدير واحترام. عالم يُجيد استخدام الكلمات وتلقينها لعامة النَّاس، ولكن لم يعد كذلك منذ ذاك اللقاء إذ تحوّل إلى صوفي عذب، يدور كما تدور الأرض، يسبّح الله بكرةً وعشيّة، يتأمل، ويكتب ماجاد به التأمل شعرًا ومحبةً. هناك كثير من القصص والحكاوي التي وردت في شأن شمس التبريزي والتقائه بمولانا جلال الدين، ولكنني أظن بل وأجزم بأنّ شمس هذا في هيأته وصورته التي تشكلت في المخيلة هو إنسان بسيط، رث الثياب، شعره طويل ومُجعّد، وهو درويش يمكن أن يقابلك في الأزقة والأحياء وفي مجالس الذكر العديدة، سره باتع، غارق في محبة الله، يعرف الله، سبحانه وتعالى، بالحب، يخلص إليه في محبته وعبادته، وله من العلوم والأسرار ما يجهله العلماء والفقهاء، تقدّس سره وعلا شأنه.

تعليق عبر الفيس بوك