لماذا هذا الانقسام في وعي الأمة؟!

 

عبد الله العليان

الانقسام الذي تعيشه الأُمة هذه الفترة يُشكل خطراً كبيراً على وجودها وكيانها وهويتها، والواقع أنَّ هذا الانقسام والاختلاف، لم يكن قائمًا قديماً بهذه الحِّدة والتوتر، وصار التَّعددُ والتنوعُ الذي يُعد ثراءً إيجابياً صراعات، تؤسس لتحولات ما يشبه الطوائف المُتصارعة، بسبب اختلافات سياسية، تم انحرافها فكرياً ومذهبياً.

في كتابه (الوعي الذاتي) المُفكر السوري برهان غليون، يرى أنَّ هذا الانقسام في الوعي العربي بين أفكار عديدة تتقاسمه في العديد من الجوانب الفكرية، ولا يزال يعيش في أزمة هذا الانقسام حتى الآن، فيقول: قبلَ الفكرُ أن يعيش في ثنائية دائمة وألا يرى نفسه ولا يعيها إلا من خلال هذه الثنائية المُعممة في الوعي والعقل والممارسة: ثنائية الحديث والقديم، والسلفي والمُتجدد، والأصولي والمُعاصر، والديني والعلماني إلخ.وفي جميع المحاولات النظرية التي تعرضت لهذه الأزمة، يبدو التأكيد على هذا الجانب أو ذاك أو الدفاع عن ضرورة التوفيق بينهما، التزاماً أساسياً لدى مُختلف الأطراف.

ولكن قليلة هي الدراسات التي سعت إلى الذهاب أعمق من ذلك لرؤية الأسباب الكامنة وراء هذه الثنائية، والمنابع التي تستمد منها حياتها واستمرارها. وهكذا لم يقم الفكر النَّظري العربي في العقود الماضية، وبقدر تبنيه لهذه الثنائية كواقع ثابت وطبيعي، إلا بإعادة إنتاجها وتجديدها.وبسبب ذلك ـ كما يقول د/ غليون ـ أن منهج دراسة الفكر والثقافة بقي في أغلب الأحيان،إن لم يكن في جميعها، منهجاً سجالياً يقوم على تبرير تأكيدات ومواقف معينة أصالية أو عصرية، والدفاع عنها في وجه خصم مفترض، ولم يسمع إلا لماماً لتجاوز هذه التأكيدات وأحكام القيمة المستمدة منها إلى الكشف عن قوانين هذه الثنائية أو وضعها موضع الشك والتساؤل.

فلا يُمكن أن يصدر هذا التجاوز إلا عن منهج التحليل التاريخي والمُعالجة العلمية التي لا تنطلق من مُناقشة صحة أطروحة الحداثة والأصالة أو خطئهما، وإنما تقوم على البحث عن مصدر هذه الثنائية في الوعي والواقع معاً. هذا لا يعني ـ كما يرى المؤلف ـ أن ليس لهذه التيارات السائدة والمُتصارعة تفسيراتها الخاصة وغير المُعلنة لأزمة الثنائية الثقافية. إذ في ردودها المُتبادلة تحاول كل الأطراف أن تظهر سبب بقاء الأطراف الأخرى، وتلحقه بشكل أو بآخر بعوامل سلبية داخلية أو خارجية. ثم إنها تحتاج لتبرير نفسها وشرعية وجودها إلى أن تعطي تفسيراً خاصاً وإيجابياً لوجودها ومزاعمها.

ويُمكن تلخيص هذه التفسيرات في مذهبين أساسيين يتفق كلاهما في إرجاع عوامل هذه الأزمة إلى أسباب تاريخية قديمة أو خارجية حديثة، مُستثنين من ذلك ومستبعدين عوامل الحاضر والواقع العربي الراهن في الوقت نفسه. ولا شك أنه داخل هاذين المذهبين، كما يقول غليون، هناك خلافات جزئية ترتبط بنظرة المنتجين لهما ورؤيتهم المثالية والمادية، وحساسيتهم الشخصية والخاصة تجاه عالم الوعي أو عالم المُجتمع والتاريخ، وهذه هي الوضعية التي يعيشها المجتمع العربي اليوم. كما يقول غليون، هي ضخامة التحديات والمخاطر المُباشرة على الوجود القومي، بسبب حساسية المنطقة العربية من جهة ووجود إسرائيل كقوة تهديد دائمة من جهة أخرى. يضاف إلى ذلك انكفاء البلدان العربية على نفسها وسعيها إلى ترسيخ إستراتيجيات قطرية مستقلة كطريق للخروج من هذا المأزق، ووسيلة لحماية نفسها أو غيرها من الضغوط الدولية والإسرائيلية. وقد أدرك الرأي العام العربي بالفطرة أنَّ المضمون الحقيقي لهذا الانكفاء هو قبول التراجع وتكريسه.

كما أدرك أنَّ ثمن هذا الانكفاء هو القضاء على التَّضامن العربي المحدود وإغلاق احتمالات المستقبل بالنسبة للعرب أجمعين. إذ ليس في مقدرة أية دولة عربية أن تحلم اليوم بتحقيق ما عجزت البلاد العربية مجتمعة أن تنجح فيه.

وفي غياب الأمل بإمكانية الرد الفعال على التحديات القائمة، الإسرائيلية والحضارية، يظهر المشروع الراهن في كل قُطر عربي كمجرد مشروع لسلطة سياسية، هدفها خدمة نخبة ضئيلة مرتبطة بالمصالح الخارجية، ليس له أية أبعاد اجتماعية ولا رسالة ولا آفاق تاريخية. ويظهر المشروع السياسي هنا بالضرورة كبديل أو نقيض لوجود مشروع اجتماعي، يأخذ بالاعتبار مصالح الأغلبية، والمصالح القومية البعيدة. ولا يكتفي بإرضاء أصحاب النفوذ. فإذا تأكد هذا، وترسخت القناعة به، لم يعد هناك مبرر للحديث عن جماعة قومية سياسية مستقلة، ومتضامنة ولا للدفاع عنها. وهذا هو الوضع الذي نطلق عليه غياب المشروع الاجتماعي والوطني. وفي هذه الحالة، تستعيد التمايزات ما قبل القومية أهميتها، وتعود العصبيات التقليدية بشكل عمودي، إلى لعب دورها من جديد كعامل أساسي في إعادة تركيبه وهيكلته بما يُحقق أولوية التنافس والصراع بين هذه العصبيات على الصراع ضد الهيمنة الخارجية، ومن أجل توسيع هامش المُبادرة الدولية للنظام وللجماعة كلل.

وهذا التنافس وذلك الصراع هما اللذان يجعلان من استنفار مسألة الهوية والتركيز عليها ضرورة حتمية، ويدفعان بالصراع الاجتماعي إلى أن يدور في القسم الأعظم منه على أرضيته وفي حدودها. وذلك أن كل فئة تسعى على حسب ما أوتيت من علاقات قربى ما قبل قومية إلى إعادة هيكلة نفسها، لتمييزها بشكل أكبر عن الأخرى، ولتحويلها إلى فاعل مستقل ومؤثر في هذا الصراع، بمعنى آخر إنَّ الانكفاء على الذات ونفي السياسة بتقديس التراث هو الوجه الآخر لاغتراب السلطة واستلابها للخارج وتدمير الذات.

التَّعارض الذي نعيشه، كما يرى المؤلف، بين السلفية والتحديثية، والثنائية التي تميز ثقافة حقبتنا، والشقاق الذي يسود تفكيرنا، ونقل المعركة السياسية والاجتماعية إلى الصعيد الآيديولوجي ـ الثقافي. كل ذلك تعبير عن تقهقر الوضع التاريخي العربي أمام الضغط والتحدي الغربي بما يعنيه هذا التقهقر من إخفاق في تحقيق النقلة الصناعية، أي الحداثة المنتجة الإيجابية، ومن تدهور لنوعية العلاقة واللحمة الوطنية. لكن هل يحمل هذا الشقاق، أو أحد أطرافه حلاً فعلياً لهذا التراجع والتقهقر ويقود إلى الخروج منه، كما يقول برهان غليون؟ يرد: قبل ذلك ينبغي التساؤل عن الأسباب الكبرى التي تكمن وراء هذا التراجع، وعن مضمونه الحقيقي وهذا يوصلنا إلى طرح مسألة الأزمة التاريخية التي تتجاوز بما لا يقاس الأزمة الظرفية الراهنة. بل إنَّ تفجر هذه الأخيرة لا يقوم في الواقع إلا بالكشف عن الأولى وإظهارها على حقيقتها.