عيسى الرواحي
تحدَّثتُ في المقال السابق عن أهمية الإدلاء بالشهادة في كونها إحقاقا للحق، وانتصارا له، وامتثالا لشرع الله، وهي وإن كانت فرضَ كفاية؛ فإنها واجبة على من طُلبت منه، وقد بينت شروط الشهادة التي يجب أن يقوم بها الشاهد؛ ومن أهمها: التيقن والتثبت فيما يشهد به.
والإقرار بالشهادة على وجهها الصحيح من صفات المؤمنين المتقين؛ حيث يقول تعالى في وصفهم: "وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ" (المعارج: 33). وقد استثنى بعض العلماء عدم وجوب الإقرار بالشهادة في حال كان الحاكم غير عدل، ويخشى من الإقرار بها وقوع الظلم والضرر.
وإذا كان إقرار الشهادة والقيام بها أمرًا واجباً ومن صفات المتقين، فإنَّ كتمانها إثم ومعصية ومخالفة لأمر الله عز وجل، وتعدل في إثمها شهادة الزور التي هي من أكبر الكبائر؛ حيث ورد عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- قوله: "شهادة الزور من أكبر الكبائر، وكتمانها كذلك".
إنَّ واقعنا الحالي يصوِّر لنا شواهد كثيرة على كتمان الشهادة؛ لاعتبارات واهية لا أساس لها في الدين، كما أنَّها سبيل واضح لإضاعة الحقوق وتضييع الواجبات وانتشار أشكال الفساد المختلفة؛ فقد يخفي المسؤول عن الجهات المعنية إهمال موظفه وتهاونه في أداء عمله، وتقصيره الكبير في ذلك بحجة التعاطف معه ومراعاة أحواله، وهذا مما لا يجوز شرعا ولا قانونا ولا يسوغ ذلك ففي هذا تضييع للأمانة، وتعاون على الإثم والعدوان، وتشجيع على استمرار الفساد الوظيفي، وكلُّ ذلك ناتج عن كتمان الشهادة، وقد يتعدى الأمر إلى أبعد من الكتمان إلى الشهادة بغير الحق، وهي شهادة الزور، وحول هذا الشأن سنخصِّص مقالا آخر بإذن الله تعالى.
ومن صور كتمان الشهادة كذلك التكتم عمَّا يجري داخل مؤسسات العمل من صور متعددة تؤثر على سير العمل، وتكون عائقا أمام العطاء والإنجاز؛ لما يحدث من تجاوزات ومخالفات تصل إلى حد خطير في بعض الأحيان.
وقد يتعرَّض بعض الموظفين إلى بطش مسؤوليهم وغطرستهم ويرضون بذلك ولا يحركون ساكنا ليس لأجل العفو والصفح، وإنما انطلاقا من مهانات الخوف والضعف أو الذل والهوان، فهم ينظرون إلى الأفراد بذاتهم وكأنهم يملكون الضر والنفع أو بيدهم مقاليد الأمور والعياذ بالله، وعندما تقف بجانب ذلك المظلوم وتحثه على رفع الشكوى ضد مسؤوله أو حتى نصحه ومواجهته، قد يصارحك بقوله: أخشى أن يقطع رزقي. بل قد بلغ ببعضهم أن ينصحك بعدم قول الحق والنطق به؛ خشية قطع الرزق، وكأن الأرزاق قطعها وبسطها بيد البشر، وليست بيد رب البشر. يقول الله تعالى: "اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ" (الرعد:26).
إنَّ صاحب اليقين يوقن بأنَّ الرازق هو الله وحده لا رازق سواه ولا يمكن لأي قوة في الأرض أن تقطع رزق أحد؛ إذ القوة والرزق بيد الله، يقول تعالى: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" (الذاريات:58).
على أنَّ من يكتم مثل هذه الشهادة كونه يُوقن بأنَّ الإدلاء بها سيوقعه في الظلم والضرر بحيث إنَّ من يقومون بالفصل في قضيته لن ينصفوه، بل سيوقعون به الضرر، فهو معذور في ذلك بناء على هذا الأمر، وما أسلفناه من مسوغات الكتمان.
وفي البيئة المدرسية، تعاني إدارات المدارس من كتمان الشهادة عند حدوث أي إتلاف أو تخريب بالمرافق المدرسية، رغم حدوث ذلك الضرر أمام جمع من الطلاب، أو إحداث الفوضى والشغب داخل الفصول الدراسية؛ حيث يقوم بهذه السلوكات الخاطئة فئة قليلة من الطلاب، فيما يتستَّر عليهم الفئة الأكبر من زملائهم، فيبقى المسيء مجهولا في كثير من الأحيان؛ وعليه فإنه لا بد من تعليم الطلاب أهمية القيام بالشهادة وتحذيرهم من كتمانها؛ سواء من خلال المنهج الدراسي أو الإذاعة المدرسية، وبيان الآثار المترتبة على كتمان الشهادة على الفرد والمجتمع... والله المستعان.