ثمار الفؤاد

 

 

عائشة البلوشيَّة

نعيشُ طفولتنا على الكيفية التي يرزقنا الله تعالى إياها، وكم ساورتنا الأحاسيس بأن أمي أو أبي أو أي فرد من الأسرة يفضلون أخي أو أختي دونا عني، ونكبر وقد تكبر هذه الأحاسيس معنا، وقد ننساها وتصبح ذكرى مضحكة أو مخجلة بالنسبة إلينا، ﻷننا وبعد مرور الأعوام نجد أننا جميعا نسكن خوالجهم، وأنهم غرسونا براعم في قلوبهم، فكبرنا وخرجنا إلى الدنيا وكبرت أفعالنا وردود أفعالنا معنا، والتي بها قد ينفر منا الوالدان أو يقربونا من قلوبهم زلفى، وهم في جميع الحالات يحبوننا ويريدون لنا الخير ﻷننا الثمار التي طرحتها أفئدتهم، ثم نبدأ في الاكتشاف والإدراك من خلال التجارب التي تقلم تصرفاتنا، والتي قد تجرنا بثقل أوزانها إلى قاع بئر الجفاف، أو ترفعنا إلى حافة البئر، لنبدأ في جذب الماء في دلو الرضا، ومع مرور الوقت نتعلم أن كل غال على قلوبنا هو ثمرة غرس في قلوبنا، وهذا الغالي قد يكون هدفا تصل به إلى مرحلة الإنجاز المذهل.

كُنت في جلسة أسرية، فدار الحديث عن الحرص الشديد الذي تنتهجه سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وأنها تتدخل في الكلمات وأحيانا الألحان، وعرَّجنا على "الأطلال" هذه الأغنية الرائعة، التي تبدأ بمقام راحة الأرواح (الهزام)، ثم (الراست) وإلى (الصبا)، ويستمر تدفق الجمال مع مقامات (الكرد) و(النوا)؛ مما حدا بي أن أجلس على محرك البحث ﻷتأكد من المعلومات التي سمعتها، ووجدت العجب في أمر هذه السيدة الهرم، حيث وكما هو معروف أنَّ "الأطلال" هي من أشعار الدكتور إبراهيم ناجي، وهي تروي قصته الحقيقية مع الإنسانة التي أحبها ورغب الزواج بها، ولكنه بعد أن أنهى دراسته للطب وعاد، وجدها قد تزوجت بغيره، وقد عرض على أم كلثوم غناءها، ولكنها أخذت ثلاثة عشر عاما بعد وفاة الطبيب الشاعر كي تخرج بها لجمهورها، والأغرب أنها قبل إعطاء موافقتها قرأت حوالي أربعة عشر كتابا حول هذه القصيدة في أسبوع واحد كي تأخذ القرار الحاسم، وقد أخذت من القصيدة الأصلية أجمل اثنين وثلاثين بيتا من أبياتها، وأضافت إليها أبياتا من قصيدة "الوداع" لنفس الشاعر، ثم قام رياض السنباطي بتلحينها، ومنذ اختيار الأبيات وحتى ليلة الخميس الأول موعد الحفلة الشهرية من عام 1965م، كان هناك عمر من أربع سنوات من الزمان بسبب اختلاف أم كلثوم والسنباطي على قفلة الأغنية "لا تقل شئنا.. فإن الحظ شاء"، تعجبت أن كيف لهذه السيدة الهرم أن تصبر كل هذه الأعوام لتخرج إحدى ثمرات فؤادها كأروع ما تكون الثمار، ولكن هذا ليس بغريب على إنسانة تتعامل مع جمهورها برقي ورقاء، وأنه يستحق الأفضل والأجمل والأرقى من الكلمة واللحن.

وصلتني رسالة عبر العالم الافتراضي في السابع عشر من شهر ديسمبر 2016م، تحمل نبأ خروج مولودي الأدبي الأول من مطابع مؤسسة "الرُّؤيا" للصحافة والنشر، ولا يمكنني أن أختزل وصف اللحظة في كلمات، فالشعور يفوق الكلمة بمراحل عظيمة، وبالرغم من أنه لم يخرج للعلن حتى لحظة كتابة هذه السطور، إلا أنني أترقبه بشوق، كما تفعل الأم عندما يتم وضع وليدها في الحاضنة حتى يسمح له الطبيب بالخروج للحياة الطبيعية، "ما بين رحلتين" خرج هذا الابن الحبيب إلى روحي، وهو يتحدث عن مكنونات النفس والروح لسطور بدأت في نشرها منذ رحلة العلاج الأولى لمولاي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- وحتى العودة من رحلته الثانية -رعاه الله وكلله بالصحة والعافية في عمر مديد سعيد- وكنت بين الغلافين عندما آتي على وصف شعور الحب والتعلق من الشعب لسيده، أستحضر مشاعر كل عُماني أحبَّ هذه الأرض وولي أمره، فجاءت الكلمات ملامسة للشعور، وعندما أصف تفاصيل الأرض أو التأريخ، كنت أتمثل أسلافي الذين نحتوا المدرجات، وكسوا السهول بذلك اللون الأخضر الضاحك، وشيدوا تلك القلاع والحصون الشامخة منذ مئات السنين، فأسمع من بين شريط فضي يمر أمام ناظري تواتر أنفاس هممهم وهم يرفعون البناء أو يرصفون مدرجات الجبال، وأشاهد قطرات العرق تكسو جباههم وهم يحرثون الأرض، وأرى لمع بروق سيوفهم في المعارك، وتتناهى إلي ترانيم حدائهم وهم يقطعون الفيافي، وتشرئب عنقي إلى عذوق النخيل حولي، فلا أجد مترجما لكل ذلك إلا حديث القلب وحبر القلم، فخرجت صفحات كتاب "ما بين رحلتين"... والله تعالى أسأل أن يرزقني القبول لدى متصفحيها.

وأخيرا، تُرى ماذا سيحدث لو أنَّنا اعتبرنا كل قول أو فعل يصدر عنا أبناءً لنا، وأنَّها ثمار تطرحها قلوبنا إلى هذه الحياة؟!!

----------------------------

توقيع: "لا أُجِيْد ردَّ الكلمة الجارحة بمثلها، فأنا لا أجيد السباحة في الوحل" ((نجيب محفوظ))