رجال التأريخ يموتون كالأشجار الواقفة

 

 

حمد العلوي

 

لقد دأبتْ مجموعة من الرعيل الأول على اللقاء السنوي، وذلك في شهر ديسمبر من كل عام، ولكن ظروف البعض حتمت التأجيل إلى مطلع العام الجديد، فربَّ صدفة خير من ألف ميعاد كما يقال، فكان اللقاء في منتصف يناير لهذا العام، وكأن بظرف الحال يُريد أن يقول إن خير اللقاء والاحتفال بمثل هذه المناسبة في بداية العام، وليس في نهايته؛ فكان اللقاء السنوي للرعيل الأول هكذا، وكأنه يأتي احتفاء بمطلع العام الجديد، وليس في نهاية عام أزف، وشارف على الرحيل؛ ذلك لكي يستبشر خيراً بالقادم المفعم بالأمل، لا أن يحتفى بعام مضى وذهب؛ فيكون كمن يُغنِّي على أطلال الماضي المنصرف، أو العام الذي ذهب إلى التقاعد في التعداد الزمني، ذلك ليوافق الصفة التي تطلق على الرعيل الأول، وهكذا يحلو للعرب أن يصفوا زملاء العمل بالأمس القريب، بعبارة وهي "متقاعد أي مت.. قاعد" بعيداً عن الأمل في مستقبل آخر، والحقيقة تقول عش مكرماً، بمعاش مضمون من غير عمل.

إنَّ فكرة "الوفاء للرعيل الأول" بدأتْ بمجموعة تواصل في نظام "الواتساب"، وكانت بادرة اللقاء الأول قد أتت بدعوة كريمة من أخ في المجموعة من أهالي فنجاء (م.م/حمود بن أحمد الفارسي) عام 2013م، وقد حضر اللقاء عدد قارب الخمسين شخصاً، ثم توالت اللقاءات بعد ذلك، وأصبح معظم الضباط المتقاعدين، يحرصون على هذا اللقاء بشغف ورغبة منقطعتي النظير، دافعهم إليه المحبة والوفاء، والرغبة في رؤية الأصدقاء مع بعضهم البعض؛ وذلك بعدما جمعتهم الوظيفة تحت كنف شرطة عُمان السلطانية، ثم فرقَّهم التقاعد الذي لا بد منه لكل موظف؛ ذلك مثل كل عمل دنيوي في هذه الحياة، فلا محالة فيه من الانقطاع، ولكن يأبى كل إنسان وفيٍّ أن يستكين لمعنى كلمة "مت..قاعد"، وإنما عليه أن لا يخرج عن النواميس الاجتماعية للإنسان الحي، وأن يلزم نفسه بقواعد العشرة الطيبة في السؤال عن الحال واللقاء، قدوتهم في ذلك القول المأثور "واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا". أمَّا القعود والسكون دون حراك من خواص غير البشر.

وها هُم أعضاء مجموعة الرعيل الأول، يتنادون إلى اللقاء الرابع بحضور ناهز المائة شخص من القادة وكبار ضباط شرطة عُمان السلطانية من المتقاعدين، ولولا بعض الظروف الخاصة للبعض، فلربما جاوز العدد 120 وهو العدد الذي قد أبلغ المنظمين بالحضور، ثم اعتذروا مع التأسف عن ذلك لبعض الطارئ، إذن العدد في ازدياد مُستمر، ونجاح هذا اللقاء تُعبِّر عنه الوجوه بالبشاشة، والابتسامة على محيا الجميع، حتى أولئك الذين كانت تحتم عليهم مهابة الوظيفة، وكبر حجم المسؤولية، فتفرض عليهم هيبة القيادة والوقار كبح الابتسامة أمام المرؤوسين، قد تحرروا من قيدها بعد مغادرة كرسي الوظيفة، ولا أقول إن القائد غادر صفته القيادية، فهي تظل لأنها صفة مكتسبة، ومتلازمة للشخصية البشرية.

إنَّ مَنْ دأب على حضور هذه اللقاءات، تجده ينجذب لا شعورياً ليس إلى المصافحة الاعتيادية، وإنما إلى المعانقة الحارة، وكأنه عائد من سفر طويل إلى حضن إخوته وأهله، فهذا يستأذن القائد الفلاني للتصوير معه، وهذا يجمع زمرة من الأصدقاء لأخذ صورة تذكارية معاً، ولولا تدخُّل الفريق المنظم بتوزيع الوقت على الفعاليات، لقضى الكل وقته إلى الليل في الأحاديث الجميلة، وسرد ذكريات الماضي أيام العمل، فهل من شيء أجمل من أن يشعر الإنسان بروح جياشة بالعاطفة، وأنه قضى يوماً سعيداً بكل مقاييس السعادة والرضا، إذن هذا اللقاء السعيد ليس وليدَ ساعته بالطبع، بل هو كامن في النفوس الطيبة، ومرتبط بسيرة حميدة مع الوظيفة، وحسن العلاقة على مدى ذلك التاريخ الرائع.

إذن؛ ليست معجزة أو أمراً صعباً أن يجتمع هذا الحشد الكبير، بهذه الروح المفعمة بالمحبة الصادقة؛ فالكل كان يشعر أنه مُدَان للآخر بالفضل في نجاح العمل، يوم كان العمل يعني التأسيس لشيء جديد، وليس مُجَرد تسيير لعمل أصبح قائماً، ومخططاً لا يحتاج إلى جهد استثنائي، فأن يضم الجمع اثنين من المفتشين العامين السابقين للشرطة، وذلك من أصل ثلاثة قادة متقاعدين، ونائب واحد حسب التسمية السابقة، وهو(اللواء م/ نايف بن عبيد السلامي) وأربعة من المساعدين للمفتش العام السابقين المتميزين، وكان على رأس هذا الجمع أول عُماني مُفتش عام للشرطة، وهو (الفريق أول م/ سعيد بن راشد الكلباني) فجمع كهذا، يشعر حاضروه بحظوة تأريخيه نادرة، لم يجد الفريق المنظم صعوبة في التنسيق، وإدارة هذا اللقاء السنوي.

فإن لقاء كهذا لا يحتاج إلى من يتدخل بصفة رسمية لدعمه؛ وذلك ليحث الأعضاء على الحضور، فمثل هذا التنسيق، والتنظيم يُعد من بديهيات الإدارة والقيادة؛ فعلينا أن نفخر ونتفاخر بهذا الانضباط والانسجام، وأن لا نُحمّل الجهات الرسمية شأن إدارة لقائنا السنوي، طالما كنا نحن أرباب النظام والتنظيم، خاصة وأن الرسميين مشغولون بما هو أهم.

وهذا نموذج صادق لحقيقة الشعب العُماني، الذي دأب على رص الصفوف، وإعطاء الانطباع الحي في الألِفة والمودة والوقار، وإن العُماني لا ينطبق عليه مصطلح (مت.. قاعد)، ولكنه بتأريخه وحميد أفعاله فإنه وإن مات فهذا قدر لا مفر منه، لكن سيظل تأريخه يُرفع شأنه، وكأنه لم يمت إلا بجسده، أما أفعاله الطيبة فستظل واقفة على رؤوس الأشهاد كالأشجار العملاقة، جذروها راسخة في الأرض، وجذعها يمتد بالأغصان الوارفة إلى السماء، وظلها يكسو الجوار طمأنينة ووفاء، وعطاؤها لا ينقطع عن الملأ.. حفظ الله عُمان وسلطانها العظيم، وأمد في عمره أعواما وأعواما، إنه سميع مجيب الدعاء.

Safeway.om@gmail.com