د. صالح الفهدي
وقف أحدُ الخطباءِ في دولةٍ عربيّة على منبرٍ جُعل للسموِّ والمعالي والفضائل فنعتَ الشباب بأوصافٍ تنفرُ منها الأسماعُ، وتستقبحهُا الأذواق والأخلاق، فإذا به يُثيرُ عاصفةً من الاستهجانِ أغلبها من الشبابِ الذي يُكافحُ من أجلِ لقمةَ عيشٍ قبل أن يُثابرَ من أجل تحقيق أحلامه وطموحاته في هذه الحياة بعد أن وجد نفسه فريسةً يتكالبُ عليها الأكلة..! ولا يدري هذا وغيره ممن جعل الشباب مطيّةً لأهدافهم قدر الجناية التي ارتكبوها في الشباب..!!
تجنّيتم على الشبابِ إذ غذّيتموهم بالفكرِ الضّالِ الذي لا شأنَ له بالدّينِ، وما أن تشرّبوه حتى وصفتموهم بالضّالين..!! إذ أصبحوا تكفيريين بسبب المساقي التي أوردتموهم إيّاها، وهي مليئةٌ بالأكدار والأوضارِ والسموم..! قدّمتمُ لهم ما أقنعتموهم به على أنّه الدِّين –والدينُ بريء- ووضعتم في أياديهم البندقية، والسكين، والحزام النَّاسفَ، والقنبلة..! وكل ذلك تتبرأون منه لكنكم لا تتبرأون من أفكارٍ لا تمتُّ للدينِ بصلةٍ ..! حشوتم عقولهم الغضّة بالأفكارِ البغيضةِ التي تتبخرُ من الكتبِ المتوارثة وكأنّها سمومُ كيماويةٍ تبيدُ وتهلك بل هي أشدُّ وطأةً، وأعظمُ فتكاً، وأوسعُ دمارًا..!
تجنّيتم على الشبابِ بأن ورثّتموه الأحقادَ والثأرات والشحناء وكان حقّاً لهم أن تتفتحَ أنظارهم على عالمِ المعرفة والتقنيات والعلوم الطبيعية، فيفكروا –كما فكرّ غيرهم- في بناءِ أوطانهم، ويُسابقوا في تقدّمها، ويجدّوا في نمائها، ويكافحوا من أجل عزّتها ورفعتها..! فإذا بهم ينكصون إلى الوراءِ بفضل تسلّطكم عليهم واستبدادكم بهم كي يتناحروا فيما بينهم، ويتشرذموا فِرَقاً وشيعاً ويعملوا جاهدين على تمزيق أوطانهم بأفظع ما قد يفعلهُ العدو بها ..!
تجنّيتم على الشباب فجعلتموه مطيّةً لمراميكم وغاياتكم حتى قال أحد المارقين منهم في نظركم "نُريدُ من علمائنا أن يوصلونا إلى الجنة، وهم يُريدون منِّا أن نوصلهم إلى السُّلطة"..! فإذا بهم طوع الخنصرِ من إصابعكم يأتمرون بإشارتهِ سكوناً أوحراكاً..! فدفعتموهم إلى القتالِ لا إعلاءً لدينٍ، بل تحيزاً لمذهب، ولا عزةً لوطن بل إسعافاً لطائفة، ولا نصرةً لحقٍّ أو دفعٍ لمظلمةٍ وإنّما إحقاقاً لسيادةٍ، وفرضاً لقيادة..!
تجنّيتم على الشبابِ بتعطيل قوى العقل منهم، فأصبحَ التفكيرُ مُحرّماً كي لا يجرَّ في نظركم إلى الضلال، والنقدُ غايةُ التبجحِ عندكم مخافةَ نغز ثوابتِ الأمّةِ، وأركانِ الدّين..! لقد أصبح من يُعْمِلُ عقلهُ عندكم متمرّداً على المنطقِ لأنَّ المنطقَ هو ألا يُفكرّ بل يتبّع وكفى، وهذا هو كلّ قَدَرهِ في الحياة..! فإن خرجَ عن السربِ، وأرادَ أن يرفعَ صوتاً مكبوتاً ليقولَ رأياً تحكمهُ ضوابطُ الدينِ فالتُّهم جاهزةٌ عندكم فهو إما "ليبرالي" أو "علماني" أو يتطاولُ على الأئمةِ والعلماء والسلفِ الصالح..!
تجنّيتم على الشبابِ بأن حرضتموهم على القتالِ، ودفعتموهم إلى مواطنِ الفتنةِ والهلاك، ليعانقوا الحور العين بمجرد ضغطةٍ على زرِّ حزامٍ ناسفٍ يزهقُ أرواحاً بريئة، ويبيدُ أرضاً مريعة..! أمّا الدعاةُ منكم فقد أمنوا العقوبةَ، فهنئتَ قلوبهم، وارتاحت سرائرهم فجابوا البلدان ليتزوجوا من "حور عِين" الدنيا، ليتركوا مطلقةً هنا، وينثروا ذريّةً هناك، حتى أصبحَ لهم من الذراري والزوجات ما لا يحصيه العدّادون الثِقات..! ولا زال الناسُ مخدّرون، غائبونَ عن الوعي والحقيقة، يستمرأون سمومهم، ويشربون من كاسات خطاباتهم الوديعةِ ظاهراً، القاتلةُ باطناً..! ولا زالت الدعوات ترِدُهم، والموائدُ تبسطُ لهم، وكأنما هم قادةٌ للمستقبلِ الزاهرِ، وليسوا قادة الأفكارِ الضالةِ التي أودت بالأمّة وشبابها ومقدِّرتها إلى الهلاك ..!
ومثلكم تجنّى الكثيرُ من الساسةُ على الشبابِ بأن عطّلَوا قواهم، وأهملوا قدراتهم، وأضاعَوا ملكاتهم، وجعلوهم كالأشباحِ التي تمشي في الظلالِ فإن هي ظهرت وُئِدت وإن هي تخفّت طُمست..! المتعلم منهم محشورٌ في زاويةٍ، أو مهملٌ في ركنٍ، والموهوبُ منهم معطّل القوى، مهيض الجناح..! والمُبدع منهم لاذ إلى فضاءاتٍ فسيحةٍ، أو أشبعَ نفسه بأوهامٍ مبهمة..! وما شعاراتُ "الشبابِ عمادُ الأمّةِ" و"الشبابُ هم المستقبل" إلا حبرٌ مُراقٌ في سرابٍ بقيعةٍ، إلاّ لدى قلّةٍ آمنتَ بالشبابِ، ففتحت لهم الأبوابَ، ومكّنتهم في ميادين البذلِ والعطاء.
وعلى غراركم تجنّى على الشبابِ من وضع "ثوابت" التعليم التي أصبحت عصيّةَ على التغيير في الدول العربية رغم كل ما يحدثُ في الحقول التعليمية من تغييراتٍ مشهودةٍ إلا أن "الحفظ عن ظهرِ قلبٍ" هي شعارهم المفضل الذي جاءَ به القس دانلوب مستشار كرومر للتعليم إبّان الاحتلال الإنجليزي لمصر..! فعطّلوا التفكيرَ والنقد، وأوقفوا حركةَ العقلِ، وفتحوا مخازنَ الذاكرة لكي تتلقى الحشو الذي لا ينفعُ الواقع بشيءٍ يذكر..! لينهضَ الشباب وهم يردّدونَ الأشعارَ والأناشيد والسور ويرسمونَ الصور لا ليكون ناقداً، مفكراً، مبدعاً، مبتكراً، ومحركاً فاعلاً للحضارةِ وفق مبادئ عُليا، وقيمٍ فضلى..!
وفي هذا السياقِ تجنّى على الشبابِ من حسبوا أنفسهم مربّينَ لأنّهم نسلوا من أصلابهم أبناءً لا يحق لهم أن يشقُّوا عصا طاعتهم بأفكارٍ ذات حداثةٍ عصرية تتواءم مع فكرِ العصر، لأنّها في نظر هؤلاء "المربّون العظام" شذوذٌ عن القاعدة، وتغريدٌ خارج السربِ الذي توارثَ عبر الأزمنة مساراته وغاياته..! فإذا بالفجوةِ تتسعِ بين جيلٍ تفتّحَت أذهانه على علوم التقنيات الحديثة، وبين آباءٍ لم يستطيعوا أن يتواءموا مع التغيرات فاتهموا أبناءهم بأنَّهم في ضلالٍ مُبين..!
وتجنّى على الشباب بعض من اقتحموا الإعلامَ بما يملكون من نفوذٍ مالي عظيم، أو سلطةٍ مُؤثرة، ليهتكوا القيم الكريمة التي فطر الله النَّاس عليها، وليُحطِّموا المبادئ السامية التي تنهضُ عليها الشخصية الإنسانية القويمة، فإذا بهم يزيدون الداءَ الوبيل القادمَ من ثقافات أضاعت الأخلاق عبر الفضائيات وعالم الاتصالات داءً أشدُّ فتكاً، بل وأعظمُ أثراً..!
تمعّنوا إذن، فقبلَ أن يحاسبَ الشبابُ على ضلالٍ ديني، يجب أن يحاسب من يلبسُ العمامةَ فينصّب نفسه عالماً ربّانياً وهم متفيهقٌ، متشدّق، فتّانٌ، لأنّه شرّبهم سموم الفتنة، وفطّرهم على مائدةِ الأفكار النتنةِ، وحشا عقولهم بالأوهامِ والخرافات التي ربّتهم على التزمُّت، والغلوِّ والتشدُّدِ لغير طائلٍ حتى انقلبَ هذا الشاب من بانٍ لوطنهِ، حامٍ لعرضه، مدافعٍ عن أهله إلى قاتلٍ لوالديه، مهلكٍ لأرضٍ ربّته وأنشأته..!
قبلَ أن يحاسبَ الشبابَ على الضلالات التي جرّتهم إلى مُستنقعات الهلاك يجبُ أن يحاسب من نمّقَ لهم تراثاً مليئاً بالآفاتِ، والسوداوية، والتكفير، وزوّقَ لهم القصور في الجنان، والحور الحسان بقتلِ الشيبةِ والصبيان، وإبادةِ الأوطان..! يجبُ أن تسدَّ هذه المساقي المبوءةِ، ويصدُّ مروّجو هذا الفكر الظلامي، الإجرامي الهدّام ..
قبلَ أن يُلام الشبابُ على انحرافِ نفسٍ، وخورِ عزيمةٍ يجب أن يُلام مربّون لا يمثلون قدواتٍ صالحةٍ لأبنائهم، فكانوا سبباً لانحرافهم وفسوقهم عن الطريق السوي.
قبلَ أن يحاسب الشبابُ لأنّهم لا يقدحون عقولهم بالتفكير، ولا يشغلونها بالتأمل والتدبّر، ولا يعتنون بالنقدِ يجب أن يحاسب من وضع أٌسس التعليم وقواعده، إذ قام - في أغلبهِ- على الحشو فيما لا طائلَ من ورائه، واعتمدَ على التخزين لما لا جدوى منه..!
قبل أن يحاسب الشباب على ضياعِ هممٍ، وخسارةِ أوقاتٍ، وتدنِّي قيمٍ يجب أن يلام من يتبوأ المنصب الرفيع في وسيلةٍ إعلامية مؤثرةٍ فلا يعنيه أمرَ الإصلاح، ولا يكترثُ للتقويم بل يسعى إلى نشرِ المقابحِ، والتهتكِ والمغريات، ويحاسب من يملكُ وسيلة إعلامية ثم يطوّعها لتسويق الأفكار الرخيصةِ، وتسويق الشهوات والملهيات..!
هؤلاءِ وغيرهم هم الذين تجنُّوا على الشبابِ فما الشبابُ سوى ثمرةِ شجرةٍ هم فلاّحوها، فإن آتت أُكلها طيباً كان ذلك ثوابَ اعتنائهم وتعهدهم لها، وإن هي أثمرت قطوفاً سامة فذلك مما جنت أياديهم..! فتوقفوا عن لومِ الشبابِ ومُحاسبتهم وقدحهم ووصفهم بالألفاظ المهينة، وعوضاً عن ذلك لوموا أنفسكم، وبادروا لإصلاحِ أخطائكم فيما تجنيتم على الشباب..!