الأبعاد التنموية للميزانية الجديدة

 

 

حاتم الطائي

البُعد التنموي للأرقام الواقعية والمُؤشرات المتزنة في ميزانيَّة الدولة للعام 2017، يكشفُ للمواطن عن جَهْد حُكومي واسع يُبذل، يَتَمَاس والتطوُّرات الاقتصادية المتلاحقة؛ من أجل استمرار الحركة الدائرية لعجلة النمو والنهوض. فالجميع من المتابعين والمهتمين -وعلى مَدَى الأشهر الثلاثة الأخيرة- كانوا في حالة ترقُّب وتخوُّف من "ميزانية تقشُّفية"؛ تؤثر سلبًا على مشاريع التنمية، بفِعْل إخفاقٍ عالميٍّ في ضبط أسعار النفط، وانتظارٍ على المستوى المحلي لبدء تنفيذ مخرجات البرنامج الوطني للتنويع الاقتصادي "تنفيذ"، والذي أُعلن في ختام مرحلته الثالثة أنَّ 86% من جُملة مبادراته ستُنفَّذ بدعم غير حكومي.

إلا أنَّ عُنصريْ المفاجأة والاستثناء كانا حاضريْن مع إشراقة شمس العام الجديد؛ بصدور المرسوم السلطاني المعتَمِد للميزانية الجديدة، والتي تجيء في مرحلة دقيقة من عُمر تجربتنا التنموية المباركة؛ مُستهدفة نسبةَ عجز أقل من موازنة العام الماضي عند 3 مليارات  ريال؛ وجُملة إنفاق تصل لـ11.7 مليار، وإيرادات مُتوقَّعة عند 8.7 مليار. وعلى الرغم من فقد الخزانة العامة لـ67% من الإيرادات النفطية خلال 2016، إلا أنَّ خطوة تثبيت سعر الصرف على المشروعات الإنمائية يضمن بلا شك إتمام مرحلة سير العمل، وإكمال المشاريع التي هي قيد التنفيذ الآن. وللإيضاح أكثر، فإنَّ موازنة 2016 توقَّعتْ للحكومة نفقات 11.9 مليار ريال وإيرادات 8.6 مليار ريال وعجزاً 3.3 مليار ريال، إلا أنَّ العجز الفعلي تجاوز التوقعات وبلغ 5.3 مليار ريال حسب الإحصاءات الأخيرة لوزارة المالية.

وباعتبارها جزءًا من الخطة الخمسية التاسعة، فإنَّ الميزانية الجديدة جاءتْ معزِّزة لجهود التنويع والاستدامة بصورة تُحاكي التطورات والاستحقاقات، وفق آليات مُتجدِّدة، يصنعها في الواقع اقتصادٌ وطنيٌّ أكثر انفتاحا ومرونة واستدامة ومبادرة، وأقل تعرُّضا للمفاجآت. فـ"ميزانية 2017" -ورغم ما أقرته من استمرار ترشيد النفقات- تُحاكي مستقبل الدعم الحكومي الراهن، دون المساس بمستحقيه، مما يُوفِّر دعما متطورا عادلا، بعد أن تتحدَّد الأطر العامة له، والشرائح التي تستحقه بالفعل؛ كنواة جديدة تهيِّئ الأجواء أمام مجتمع أكثر حيوية وتعاطيا مع المستجدات من حوله، مجتمع يستكمل مسيرة البناء وفق رُؤى تتكامل مع مُوجِّهات المراحل الماضية، وضمن سِلْسِلة لا تنتهي من استثمار الإمكانات الموجودة للوصول إلى غايات التنمية تحقِّقها عناصر المجتمع المختلفة.

لقد صِيْغت مُفردات الميزانية الجديدة في ضوء تطوُّرات الأوضاع الاقتصادية المحلية والعالمية، بما في ذلك تقديرات أسعار البترول، وتقدير مُتطلبات الجهات الحكومية بصورة أكثر واقعية لتفادي الزيادة في الإنفاق الفعلي ولتحقيق انضباط مالي أعلى؛ يُعزِّز حالة الحراك التي تَرْسِم ملامحَ أكثر قوَّة ومتانة لاقتصادنا الوطني، والتي يصنعها تركيز حكومي جاد على المشاريع الحالية، وإطلاق سلسلة أخرى من المشاريع النوعية الجديدة؛ وكلها مؤشرات تدفع بالقطاعات الاقتصادية نحو تحقيق الأهداف المرسومة لها، على الرغم مما قد يبرز من تحديات ينبغي التعامل معها بما يستحق من اهتمام؛ بُغية وَضْع المعالجات الضرورية لها، كي لا تتراكم ونُفاجَأ بها وقد تحوَّلت لإشكاليات تعوق تحقيق أهداف التنمية. الأمر الذي يقود لحديثِ أوسع حول ضَرُوْرة الارتقاء بالكوادر والكفاءات الوطنية، انطلاقاً من مَبْدأ أنَّ الإنسانَ هو هدف التنمية وأساسها.

وكمِفْصَل أساسي يضبط حركة التنمية، فإنَّ تجديد الحكومة -مُمثلة في وزارة المالية- عزمها مواصلة وتسريع وتيرة برنامج تخصيص الشركات، وإحالة حصص الحكومة في الشركات المحلية والخارجية للشركات القابضة، وتحويل ملكية بعض الشركات للصناديق السيادية، مع الأخذ بالاعتبار الجدوى الاقتصادية والدراسات الاستشارية المالية والقانونية والفنية ومتطلبات مشاريع التخصيص، لهو مُؤشر آخر على سلامة التوجُّه الاقتصادي؛ الذي يعكس حرصًا على إشراك القطاع الخاص في مَسِيْرة البناء؛ إذ تُعتبر "الخصخصة" أداةً أساسيةً لتوسيع مشاركة القطاع الخاص في امتلاك وتمويل وإدارة الأنشطة الاقتصادية، وتوسيع قاعدة الملكية وتعميق سوق رأس المال عبر طرح اكتتابات جديدة خلال العام. ومن جهة أخرى، توفير مداخيل إضافية للحكومة لمقابلة التزاماتها. كما ننتظر قريبا خطوات جريئة لتبسيط الإجراءات في بيئة الأعمال، بما يُسهم في خلق بيئة محفِّزة للقطاع الخاص، كما نتطلع لصدور قانون الاستثمار الأجنبي -الذي طال انتظاره- ليُسهم هو الآخر في جذب استثمارات أجنبية جديدة ترفد الاقتصاد الوطني، وتدعم الجهود الحالية.

... إنَّ ميزانية الدولة للعام 2017 -رغم واقعية أرقامها وتوازن مُؤشِّراتها- لتُبْقِي قضيَّة "التنويع الاقتصادي" على رأس التحدِّيات التي تُواجه اقتصادنا الوطني، وتفتح المجال أمام حديثٍ أكثر جدية عن الالتزامات المستقبلية المواكبة للتطوُّرات؛ حمايةً للمال العام، وتطويراً للأداء المؤسسي، وتعزيزاً للتنافسية؛ وتحقيقًا للقيمة المضافة؛ عبر تضافر لمزيد من الجُهود بما يُحقِّق خُطى أسرع على دَرْب التنمية المُستدامة، ويَضْمَن نموًّا يجاوز التوقعات، واستقرارًا يُواكب الجهود والإمكانيات.