عُمان ممكنة

 

 

د. سَيْف المعمري

التحدَّي الكبير لنا في عُمان هو أنْ نُعزِّز قوتنا، لكن: ما هي القوة التي نريد أن نعززها؟ هذا السؤال الذي لابد أن يكون لنا إجابة واضحة عليه حتى نستطيع أن نعمل على غايات واضحة، فإن كانت قوتنا هي في تنويع الاقتصاد وتقليل التداعيات التي تركنا علينا انخفاض أسعار النفط حتى الآن، فالأمر يتطلَّب البدء في تحقيق هذا الهدف من خلال العديد من الإجراءات؛ منها: تنشيط إسهامات القطاعات الأخرى، وجلب استثمارات أجنبية، وتقليص حجم الجهاز الإداري للدولة الذي يستقطع جزءا كبيرا من الموازنة العامة للدولة، ويمكن الاستغناء عن كثير من الوظائف الشرفية التي لا عمل حقيق لأصحابها، ويمكن إلغاء كثير من اللجان والمجالس التي يمكن أن تؤدى وظائفها الموسمية من خلال دوائر صغيرة في بعض الوزارات المرتبطة بها، فهل بدأنا في أي من هذه الإجراءات بجدية ونحن ندخل العام الثاني من أزمة انخفاض أسعار النفط؟

وإن كانت قوتنا تتمثل كما جاء في النظام الأساسي للدولة في إعداد جيل قوي في أخلاقه وتعليمه، يكون مُعدًّا علميًّا بأنظمة تربوية تعليمية تضاهي الأنظمة التربوية في دول العالم المتقدمة، فإن الأمر يقتضي أن نتوجه للتعليم ونبدأ في إجراء إصلاحات جذرية تتمثل في تطوير رؤاها وفلسفاته ومناهج، وأيضا تطوير الإدارات التي تشرف عليه، ووضع معايير للجودة يتم تطبيقها بصرامة لا تستثني أحداً، وتقود إلى إغلاق المدارس والكليات والجامعات الحكومية والخاصة التي لا تلتزم بهذه المعايير، ويجعل العاملين فيها والقائمين على إداراتها يتحملون المسؤولية، كما يتم مكافحة التعليم الموازي المتمثل في الدروس الخصوصية التي تنتشر في كل مكان إعلاناتها دون أية رد فعل رسمية؛ مما يعني أنَّ هناك مُباركة شرعية لها، كما يتطلب هذا المسار تبني أساليب تدريسية تركز على المعرفة والتفكير، والبحث والاكتشاف من خلال تشجيع موجة الهجرة الجماعية من الفصول الدراسية إلى المختبرات والمعامل وأماكن التدريب، هل بدأنا في التصدي لهذه الظواهر التي تقوم بعملية إماتة بطيئة للروح المتوثبة والمواهب التي يمتلكها بعض الطلاب؟!!

أمَّا إنْ كانت قوتنا تكمن في تعزيز الموارد البشرية وفتح فرص عمل لها، وتمكينها حتى تسهم في النهوض الاقتصادي، إذن فلابد من التوجه إلى سوق العمل الحكومي والخاص، توجهاً من أجل تحديد الوظائف التي تتطلب الإحلال سواء كانت أكاديمية، أو إدارية أو فنية، والنظر للموارد القادرة على شغل تلك الوظائف بعد تقييم مهارات الذين يشغلونها، ومقارنتها مع الكوادر الوطنية التي يجدر أن تستلمها، فليس من الصواب أن نفرط في وظائف ذات مردود اقتصادي ومعرفي كبير ونحن لا نرى أي مردود يمثل إضافة للبلد من بعض الذين يشغلونها حاليا، كما لابد من إعادة إحلال لمراكز اتخاذ القرار يكون معيار البقاء فيها هو الإنجاز وفق الخطط الموضوعة، أما احتكارها مدى الحياة من قبل من يشغلونها دون أية مؤشرات تقدم ونمو وتطوير؛ فذلك لا يساعد على تحقيق الهدف الذي وضعناها وهو تعزيز قوتنا؟ فهل هناك خطوات اتخذت من أجل الاستفادة من مواردنا البشرية؟

ولكن، إذا كانت قوتنا تكمُن في تعزيز الهوية الوطنية، بكل ما تحمله من قيم وإنجازات حضارية، وأعراف وتقاليد، وبنى اجتماعية وثقافية، إذن لابد أن نراجع مسألة الهوية والمنعطفات التي تمر بها، فقيم العمل والكدح والجدارة، أو تلك التي تمر بها اللغة التي باتت غريبة في معظم المؤسسات التعليمية منها بالذات، أو تلك المرطبة بتزايد حضور الثقافات الوافدة التي جاءت معها بأنماط وعادات وتقاليد، وطموحات، أو تلك المتعلقة بدور البنى الاجتماعية وكيف يمكن تيسيره من أجل أخذ جزء من المسؤولية في النهوض بالمجتمع وحل إشكالياته؛ لأنَّ مثل هذا الدور أصبح ضروريا بل وواجبا ومتطلبا من متطلبات المواطنة يقوم به المواطنين بحسب إمكاناتهم وقدراتهم ونفوذهم، وهو ليس دورا مستحدثا إنما قاموا به من قبل في فترات تاريخية حيث أنشأوا المدارس، وقاموا بالرقابة على التعليم، وكفلوا الأيتام، وعملوا أوقاف لتيسير كثير من شؤون حياتهم، وزادهم ذلك تماسكاً، واستقرارا واطمئنانا، فأين نحن من هذا المسار؟ وما الرؤية التي وضعناها لتعزيز الهوية الوطنية في مكوِّنها القيمي على وجه التحديد؟ وكيف يمكن أن نحقق تقدما ونحن في الواقع يزداد ابتعادنا عن بعض مما يمثل مصدر قوة لنا في هويتنا؟!

وإنْ كان المطلوب لتحقيق ذلك الهدف: العمل على مختلف تلك المسارات، فإنَّ المهمة تكون مضاعفة، وربما معقدة، ولكن لابد من المضي فيها، لأنَّ كل مرحلة تاريخية تمر بها المجتمعات تنشأ منها مبررات تدفع لتحقيق تحول بدافع الضرورة لا بدافع الاختيار أحيانا، وليس هناك من وقت أنسب من الآن رغم أن كثيرين يرونه صعبا لأن توافر المال من وجهة نظرهم هو المحرك الأساسي للتنمية، وليس الإرادة والتحدي، ففي الوقت الذي يرى فيه الآخرون أنَّ بلدا ما سيواجه تحديات سببها الاقتصاد يفاجئهم بتحويله تلك التحديات إلى محركات للفعل والبناء، لقد كتب المنظِّر السياسي الهندي "بارتا شاترجي" كتابًا عنوانه "هند ممكنة"، وكان أساسه محاضرة ألقاها في بنجالي في كلكوتا أصدره في العام 1998، أي منذ سبعة عشر عاماً، تكلم فيه عن قدرة الهند على بناء تقدم وحداثة خاصة بها قائمة على مقوماتهم الذاتية، وعلى إنسانهم الهندي بدلاً من الاعتماد على المستعمر في تحقيق تلك المهمة، وأنا أقول إن "عُمان ممكنة" بدون نفط، لكنها غير ممكنة بدون إنسان قوي، وغير ممكنة بدون اعتزاز بالهوية الوطنية يدفع نحو العمل والتفكير والإضافة إلى الجهود الفكرية، وغير مُمكنة بدون تعليم قوي يضاهي التعليم في مختلف دول العالم؛ فلدينا الأساس العلمي، والريادة في كثير من العلوم، وهدفنا للسنوات المقبلة يجب أن يكون واضحًا وهو أن نحافظ على كل ما هو ممكن في عمان، وأن نعمل على جعل ما هو غير ممكن ممكناً، نجعل التعلم ممكناً، والموارد البشرية المتميزة ممكنة في قدراتها ومؤهلاتها، وتنويع مصادر الدخل ممكناً، وإيجاد شباب في أماكن اتخاذ القرار ممكناً، والمؤسسات المدنية الفاعلة ممكنة.. باختصار: المهمة التي تنتظرنا جميعا ليست مع الممكن إنما هي مع كل شيء نراه غير ممكن ونقنع أنفسننا بأنه غير ممكن، نحن أمة لم يعرف خطابها يوما كلمة "غير ممكن" أو "مستحيل"، فلماذا نقدِّم لهذه الكلمة اليوم فرصًا ونحن تعلمنا أن هذه الكلمة لو وُجِدت عند صاحب الجلالة السلطان المعظم لما نجح في بناء الدولة التي نعيشها واقعا، بعد أن كانت غير ممكنة قبل ستة وأربعين عاماً.