عبيدلي العبيدلي
يُشير الأستاذ المُحاضر في العلاقات الدولية، بجامعة محمد خيضر بسكرة في الجزائر مصطفى بخوش، في تشخيصه للعلاقات الدولية القائمة التي تنظم الدول العظمى، لقد "دفع انهيار نظام الثنائية القطبية ونهاية المواجهة بين الكتلتين إلى الواجهة مسألة إعادة التفكير في النظام الذي سيحكم وينظم العلاقات الدولية في مرحلة اختفت فيها الحرب الباردة لتترك المجال واسعاً لصراعات من نوع جديد. وبرزت الحاجة لتطوير شبكة قراءة وتحليل جديد تشرح الظواهر الجديدة التي ترتبت عن نهاية الثنائية القطبية".
سبق بخوش في دعوته هذه رهط كبير من علماء السياسة والعلاقات الدولية، يتقدمهم الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما الذي ذهب إلى القول إنّ "ما نشهده ليس مجرد نهاية الحرب الباردة، أو مرور فترة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، ولكنها نهاية التاريخ على هذا النحو ... هذه نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وبداية عولمة الديمقراطية الليبرالية كشكل نهائي للحكومة الإنسانية".
شارك فوكوياما في استنتاجاته ودخل معه في سجالات نظرية حاولت أن تقرأ مسارات العلاقات الدولية التي تولدت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإن كان من منظار مختلف ونهايات غير متفقة معها الفيلسوف الأمريكي صمويل هنتنغتون الذي تقوم أطروحاته على أن الصراعات في العالم إنما هي صدام مباشر ناجم عن التنوع الحضاري، كي تعود في نهاية المطاف لتتحدث عن "تكريس الهيمنة الغربية وتدعو للدفاع عن مصالح الحضارة الغربية على أساس النفط والأسواق. وبالتالي اتخاذ كل ما يتطلب للتعامل مع الآخر: الحضارات غير الغربية وخصوصًا الحضارة الإسلامية والحضارة الكونفوشيوسية أو الصينية، وأي تقدم تحققه هاتان الحضارات يكون على حساب الحضارة الغربية".
ما يتفق عليه الفيلسوفان الأمريكيان هو عودة سيادة الغرب، والغرب بالنسبة لهما الولايات المتحدة، إلى صدارة القوة المهيمنة على مسار العلاقات الدولية وتحكمها فيها. هذا التحكم الذي يسيطر على الوجه الرئيس لتلك العلاقات ولا يشغل باله أو ينهك قواه في القضايا التفصيلية الداخلية اليومية.
تهاوت هذه الطروحات، وتهشمت معها على واقع الأحداث التي عرفها العالم، وعلى وجه التحديد مقولة السيطرة الأمريكية القائمة على التفوق العسكري المرتكز على تقدم تقني. وشهد على ذلك مجموعة من الحوادث ذات الطابع الاستراتيجي يمكن رصدها في النقاط التالية:
·تعثر الاقتصاد الأمريكي لأكثر من مرة خلال العقدين الأول والثاني من القرن الواحد والعشرين، ليس أزمة الرهن العقاري التي اندلعت شرارتها في 2008، وسبقتها أزمة انفجار فقاعة شركات الإنترنت سوى أبرز معلمين فيها.
·تمرغ الوجود الأمريكي في أوحال أفغانستان، رغم طرد الروس منها، فقد شكلت، ظاهرة تنظيم "القاعدة"، بغض النظر عن الموقف منه، ظاهرة جديدة في خارطة الصراعات الدولية، أربكت المشروع الأمريكي، وأرغمته على إعادة التفكير في أشكال سياسات إحكام قبضته على مسار العلاقات الدولية.
·عودة روسيا بقبضة عسكرية قوية تعززها ترسانة حربية لم يكن في وسع واشنطن كبح جماحها، خاصة في ظل زواجها مع ترسانة صناعية تبحث عن أسواق جديدة، وتفتش لنفسها عن مناطق نفوذ عالمية. ضاعف من الحيز الذي باتت تفتش عنه موسكو لإشباع شهيتها المنفتحة انتمائها للسوق النفطية، ولإن كانت خارج منظمة الأوبك.
·حادث الهجوم على برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك، والذي بغض النظر عمن هي القوة التي نظمت لذلك الهجوم، والأطراف الضالعة في تنفيذه، لكن يبقى في محصلته النهائية تعبير عن فشل النظام الرأسمالي الغربي الذي يفترض أن تقوده واشنطن في حل تناقضاته الداخلية بشكل سلمي حاسم يبيح له التصدي لهجوم مثل ذلك الهجوم، بكل ما يحمله من تحديات أمنية وسياسية بل وحتى حضارية.
كل هذه الظواهر وأخرى غيرها تنذر بعودة العالم إلى أجواء حرب دولية باردة، لكن بقوانين جديدة، وأسلحة مختلفة، وأدوات ردع متميزة. تؤكد ذلك مجموعة من المؤشرات، لعل أبرزها بروز "الشعبوية" بقوة في مجموعة من العواصم الغربية، ربما تكون الأبرز بينها الولايات المتحدة. لكن هذا البروز، تمامًا كما كانت عليه الحال في أعقاب الحرب الكونية الثانية تشوبه الكثير من عناصر الضعف، وتتحكم في ألياته العديد من الكوابح التي تكشف عنها مجموعة من الظواهر يمكن رصد الأهم على النحو التالي:
.1 أن موسكو، رغم الانتصارات التي تحققها في مجموعة من بؤر الصراع الدولية، لكنها تئن تحت أثقال مشكلاتها الاقتصادية الداخلية، وبؤر الصراع التي أججتها، وما زالت تنزف من تداعياتها، والأبرز فيها أوكرانيا وسوريا. ومن ثم فهي لا تملك الخروج من ساحة بؤر الصدام التي فجرتها من جانب، وغير قادرة على الاستمرار في المشاركة في تلك الصراعات بشكل مباشر من جهة أخرى. هذا يدفعاه إلى الاستنجاد بقوانين الحرب الباردة، وإن كان ذلك باستحداث أساليب جديدة تتناسب والتطورات التي عرفتها الساحة الدولية. والدور الذي تمارسه اليوم موسكو فوق الساحة السورية أكبر دليل على ذلك
.2 على نحو مساو تسعى واشنطن لإعادة ترتيب قواها كي تتلاءم مع الظروف المستجدة، لكن وفق القوانين الجديدة التي تفرضها التحولات التي شهدتها ساحة العلاقات الدولية. ولعل التناقض الواضح بين موقفي الإدارة الديمقراطية المنتهية ولايتها بقيادة أوباما، والتي عبرت عنها تصريحات وزير الخارجية كيري، مع الإدارة الجمهورية المقبلة على يد ترامب، وتصريحاته بشأن الكيان الصهيوني، في نطاق معالجته لقضايا الصراع الفلسطيني – الصهيوني، فيه الكثير من المؤشرات التي تدل على ارتباك خطوات الإدارة الأمريكية وهي تهيئ نفسها كي تتبوأ المكانة التي تحلم بها منطلقة من قناعتها الخاطئة بانتهاء الحرب الباردة، ومن ثم فسوف تجد نفسها مضطرة مرة أخرى على إعادة ترتيب صفوفها كي تكون مستعدة لحرب باردة لكن وفق معطيات مختلفة.
هذه مؤشرات مبكرة، علينا أن نسبر تطوراتها كي لا تأخذنا بشكل مباغت، وعلى حين غرة فندفع ثمنا باهظا لجهلنا بقدومها.