حاتم الطائي
عامٌ جديدٌ نعانقُ صباحاته اليوم، مُمسِكِيْن بأهداب الأمل، ومُطلقين العنانَ للتطلُّعات بأنْ يناله من الحظ ما لم ينل سابقاته من السنوات الماضيات؛ تلك التي كان سَمْتُها العنف والدمار والخراب، خاصة هنا في محيط إقليمنا العربي.. سنواتٌ كانت كفيلة بأن تشيِّد مَسْرَحا زمنيًّا لحروبٍ وصراعاتٍ ونزاعاتٍ عبثية، حصدتْ -ولا تزال- أرواحَ أبرياء، أرهقتهم الفتنُ والحروب والمماحكات المذهبية والاقتتالات العرقية. وفيما هي تلك الحال، يطلُّ الأملُ مجدَّداً من وسط الرُّكام؛ صحيح أنَّنا لا نملك مَقْدِرة تغيير العالم، إلا أننا نستطيع تغيير مَجَالنا الحيوي الصغير؛ بخلق ثقافة جديدة للتعامل مع المستجدات، منشؤها وموجِّهها "صناعة الأمل" في غدٍ أجمل.
فعلى المستوى الشخصي؛ يبقى لكلٍّ منا آماله وتطلعاته وأحلامه في غدٍ أفضل حالاً واستقراراً، نفسيًّا وعمليًّا وروابط أكثر قوَّة ومَنَعة لعلاقاتنا المجتمعية، وأنْ يحملَ العام الجديد "إكسير" السعادة المقرونة بتمام الإنجاز، والمزيد من الوِفَاق والوئام الذي يُشكل بإيجابيته ملامح العالم من حولنا.
وبلا رَيْب، يتضاءل حجم أمنيات كتلك، أمام تطلُّعات أُخر ترتبط بالوطن، وطننا عُمان الذي يدخل عامه الجديد وهو يستشرفُ آفاقاً جديدًا من التنمية والازدهار، اتساقًا مع رؤية سديدة وتوجيهات نيرة لقيادة رشيدة تعمل بكل جدٍّ لأنْ يُعانق هذا الوطن الثُّريا، يُترجم ذلك إنجازات تنموية وحضارية يُشار إليها بالبنان. ليحمل العام 2017 أملًا جديدًا لمَجَان وأهلها؛ إذْ يتأهَّب الجميع لانطلاقة تُبشِّر بالخير لمبادرات البرنامج الوطني للتنويع الاقتصادي "تنفيذ"؛ والتي تشمل 112 مشروعا في مجالات عدَّة؛ تهدف لرفد وتعظيم حجم الناتج المحلي الإجمالي، وكأحد الخيارات الإستراتيجية للفِكَاك عن تبعات أسعار النفط المتذبذبة (مع وجود المنافس الشرس "النفط الصخري")، إلى حيثُ فضاءات المنافسة عالميًّا باقتصاد جاد وحيويٍّ، مُتنوعٍ ومتين، يُحوِّل الأزمات إلى فرص تُتيح لنا مواصلة البناء على أرض أكثر صلابة وقوَّة. وهُنا؛ لابد من العمل الجاد لتسويق تلك المبادرات لترى النور خلال العام الجديد، والعمل على ضمان تبسيط الإجراءات أمام المستثمرين لإيجاد وخلق وظائف جديدة لأبنائنا تمكِّن الاقتصاد وتزيد مناعته التنموية.
وعلى المستوى السياسي، وفيما يُنظرُ إلى الدبلوماسية العُمانية على أنها رأسُ الحكمة، فإنَّ أحدًا لا يغفل أن هذا الدور الخارجي، أساسه ومنبعه استقرارٌ داخلي تكاملتْ مُفرداته على مدى يقارب الخمسة عقود، لترسمَ حدودًا مَعْلُوْمَة لواحة من الأمن والأمان على ثرى هذا الوطن الغالي، الحاني على أبنائه، والحافظ لعزَّتهم وكرامتهم، والموفِّر لحاجياتهم. وخارج الحدود طائر سلام يُرفرف بجناحيه فوق بؤر الحروب والفتن؛ يُنهي نزاعات، ويكوِّن وساطات، ويحتضن اجتماعات ولقاءات تسفر عن اتفاقات توقف شلالات الدم التي تراق؛ مما أوجد لعُمان مكانةً خليجية وعربية، بل ودولية، على نحو فائق الاحترام، نراه في العيون وتلهج به الأقلام والكتابات، وتتزين به التقارير، وما مَنْحُ مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، مؤخرًا، جائزة الإنسان العربي الدولية للعام 2016، سوى تقدير لجهود لا تُضَاهى، وإسهامات قلَّ لها النظير في حماية ودعم وتعزيز حقوق الإنسان محليًّا وعربيًا ودوليًّا.
وجنبا إلى جنب، انسدلَ ستار العام الما ضي على إعلان انضمام السلطنة لتحالف الدول الإسلامية لمكافحة الإرهاب، كخطوة جديدة على دَرْب الفهمِ المشترك والمتبادل، إعلاءً للسلام، وتحقيقاً للأمان، ومواصلة لجهود دعم الأشقاء والأصدقاء لتوفير بيئة إقليمية يسودها الاستقرار في مرحلة تستوجب من الجميع تضافر الجهود لمواجهة درامية التطوُّرات من حولنا.
وإقليميًّا وعالميًّا.. تُشرق شمسُ العام الجديد مصحوبة بآمالٍ تكتب نهاية "عامٍ دمويٍّ"، تجوَّل خلاله شبح الإرهاب عابرا الحدود، وأخطار وخطوب هدَّدت الأمنَ والسِّلم الدوليين، وسط رهانات دولية "غير منطقية" مع كل تأزم سياسي يحيق بمنطقتنا، أو ينهش بأجزاء العالم الأخرى؛ فعلى مدار عام كامل، شوَّهت سوداوية الأحداث ملامح عالمنا العربي، ولطخت الدماء خارطة أحداثه، ودُمِّرت العديد من مدنه العريقة، وسُرِقَتْ آثاره التي لا تُقدَّر بثمن.
وعلى رأس التحوُّلات العالمية في 2016، كان صُعود تيار "الشعبوية" الانتهازي، الذي يرفع شعار "الغاية تبرِّر الوسيلة"، بارتداء أقنعة برَّاقة وكاذبة في آن، تستهدفُ العامَّةَ من البسطاء بتسطيح الأزمات والمشكلات؛ وهو ما بدا واضحاً في حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكان أشد وضوحاً في حملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي حفلتْ بطرح حلول تفتقد للمنطق وتنتهج "التبسيطية" في التعامل مع الأزمات، ولا تقبل النقاش أو الاختلاف. ولا يُمكن بالمقابل فصل فوز ترامب عن توجُّهات أقوى دولة في العالم، والتي تجعل من "صناعة العدو" أساسَ استمرارها؛ فبالنسبة لها لابد من خلق عدو جديد كي لا تضمحل وتموت، وسيبقى القلق الوحيد أمام ترامب -الرئيس الذي خُطِّط له بعناية- هو مواجهة الزحف الأحمر الصيني، وتحريك الحلفاء في آسيا -مثل: اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان- لإحداث مناوشات محدودة، والاستفادة منهم في ترويج "صناعة السلاح"؛ إذ بدأنا نسمع عن اتفاقات بنشر مظلات صاروخية وأسلحة مُتقدِّمة على سواحل بعض الدول المقرَّر إشراكها في الصراع القادم. والنَهْج الذي يسلكه ترامب يختلف في صورته كثيرًا عن نظرية "الفوضى الخلاقة" التي أعدَّها بوش الابن ونفَّذها أوباما؛ لكنه يتسق معها في ذات الأهداف والغايات؛ وهو ما يطرح مزيدًا من التساؤلات حول مستقبل السياسة التي ستدير العالم في الفترة المقبلة، في ظل رغبةً بوتين في استعادة السيادة الروسية بتعزيز تواجدها على الساحة الشرق أوسطية، وأردوغان الطامح لإعادة بريق الدولة العثمانية، وتلويحات كوريا الشمالية بما تملكه من "نووي"، واتساع رقعة الإرهاب العابر للحدود.
وعلى كلٍّ، فإنَّ بشائر العام الجديد تحمل في ثناياها بداية مِثَالية لصيغ تفاهم وحلول جوهرية لعديد من المشكلات العربية التي يُمكن وصفها بـ"المزمنة"، الأمر الذي يُقلل -أو يعالج حسب ترجيحات عدَّة- تداعياتها السلبية التي أحدثتْ خرابًا كبيرًا على مدى السنوات الفائتة.
... إنَّنا وإذ نقفُ اليومَ مُيمِّمين وجوهنا شطرَ عامٍ جديد، وملوحِّين بأيادينا لعامٍ مضى بما فيه من محن ومنح، يبقى "الأمل" هو الصناعة التي يجب أن تُتقنها أيادينا، بإيمان راسخ، ووفق رُؤى مغايرة لقراءة ما بين السطور، وكمسؤولية تتخطَّى الإطار الفردي إلى المسؤولية الجماعية، التي تتشابك فيها أدوار المجتمع؛ لتجاوُز تداعيات الأزمات المحيطة، ولاستكمال مسيرة البناء، وتعظيم مردُودَات ملحمة التنمية لخير هذا الوطن الغالي، وإنسانه العظيم.. فكلَّ عامٍ وأنتم جميعاً "صُنَّاع الأمل".