اجترار التاريخ والتخندق في قوالبه!

 

 

عبيدلي العبيدلي

 

فيما كنت أتصفّح بعض المواقع، وقعت عيناي صدفةً على عبارة دوّنها المشرف العام على مشروع النهضة جاسم سلطان على صفحته (الفيسبوك)، يقول فيها "في الأمم الكسولة يتم اجترار التاريخ وتكراره، وفي الأمم الحيّة يتم تصنيع صورة للمستقبل وكيفية الوصول إليه".

في هذه العبارة المختصرة الكثير من العبر بالنسبة لنا نحن العرب، ولمن يريد أن يتجاوز الماضي دون أن يتنكّر له، خاصة في مثل هذه الظروف المُعقدة التي تمر بها المنطقة العربية. فعلى امتداد السنوات السبع الماضية، علت أصوات من يقدس الماضي، وكثر ترديدنا لمجموعة من المقولات من أمثال الترحم على بعض الرؤساء والزعماء العرب، مشيرين إلى أنّهم لو كانوا حاضرين بيننا، لما حلّ بنا ما حلّ بنا، ولم نتعرّض لما نعاني منه اليوم. يتكرر ذلك الاجترار، الذي بات ممقوتًا ومضرًا في آن، كلما تعرضت إحدى المدن السورية لقصف بربري تشنه القوات الروسية، أو عند انفجار عبوة ناسفة في إحدى المدن العراقية، أو لحظة تصاعد الصدامات المسلحة في واحدة من المناطق الليبية.

السمة العامة تكون تنهيدة ساخنة تشكل مقدمة لخطاب تاريخي يسرد أمجاد القادة العرب الذين كان غيابهم سببا في النكسات المعاصرة التي يعاني منها التاريخ العربي المعاصر، نعقبها حالة "كربلائية" يصعب التكهن بنهايتها نظرًا لطول قائمة أسماء من "يجترهم" ذلك السرد الممل.

ليس القصد هنا طي التاريخ العربي، واسدال ستارة سوداء قاتمة عليه، لكن، وإنما، وكما جاء على لسان سعود بن عبد الرحمن السبعاني في كتاب "صنائع الإنجليز - الجزء الأول: بيادق برسي كوكس وهنري مكماهون"، في إشارته للتمييز بين استحضار التاريخ كذاكرة تنعش آمال الأمّة وتثير الحماس في نفوس أبنائها، وبين تحوله إلى مادة تثقل على كاهلها، وتمنعها من التطوّر، دون القبول باستنتاجاته التاريخيّة التي أوردها في ذلك الكتاب، الذي توزّعت مادته على 3 أجزاء. يقول السبعاني، "الأمم العظيمة الراشدة هي التي تعتبر من حوادث التاريخ، والشعوب الحيّة الواعية تستلهم المآثر والعبر من ماضيها التليد لتبني حاضرها، ولكي تتجنب الأخطاء والمآسي في مسيرتها ومستقبلها. ولكن ما فائدة اجترار التاريخ، إذا ما تحول إلى مجرد أسطوانة تدور حول نفسها لتتكرر فيها نفس الأخطاء، وتجر على شعوبها نفس المآسي، وتصبح الدروس عبارة عن تنظير فارغ. فلا يؤثر على ذوي الذاكرة المثقوبة".

يشاطر السبعاني هذه النظرة الداعية إلى قراءة التاريخ بشكل ملهم (بكسر الهاء) الكاتب عادل الطاهري حين يقول " ولا يمكن أن أغفل سبباً آخر حملني على الكتابة في هذا المبحث المغمور، يتعلق الأمر بنتيجة خلصت إليها بعد قراءات مختلفة في فكرنا العربي، وقد توصلت إلى قناعة مفادها أننا في أمس الحاجة لاكتساب حس تاريخي، وهذا غير ممكن إلا بتقديم قراءات جديدة في تاريخنا القومي، قراءة شمولية تستقي أدواتها من دروس الفكر التاريخي المعاصر، وسبيل ذلك الانفتاح على درس فلسفة التاريخ وعدم الاقتصار على اجترار التاريخ السياسي أو تاريخ الثورات وتشييد القصور... إلخ، لقد تحدث أحد المفكرين المغاربة عن إشكالية عويصة وسمت الفكر العربي بكل تلوناته، إنّها غياب الوعي التاريخي والاستسلام لرؤى سلفية ماضوية، فكلٌ يجعل من لحظة تاريخية معينة، قد تكون من تاريخنا نحن أو التاريخ الغربي، مرحلة طوباوية مثالية، ويعمل جاهداً على إحيائها، وزلزلة هذه الرؤية رهينة بإبراز الخلل الذي يعتري هذه المقالات السلفوية؛ أي بفهم التاريخ فهماً تاريخانياً".

الكاتب فارس التميمي يذهب إلى ما هو أجرأ من ذلك في معالجته لقضية اجترار العرب لتاريخهم الذي ساهم في "تكلسهم الفكري" الذي يعانون منه، فنجده يقول في نبرة عالية، يشوبها شيء من الاستفزاز للقارئ "أننا جُبِلنا على أنّ (التأريخ) الذي يعنينا هو ما يساهم في (تخندقنا) في خنادق العقائد والمبادئ حتى ما كان منها وهمياً، ومتهافتاً وغير عقلاني. إنّه من الملاحظ وبوضوح أننا نقف عند محطات تاريخية معينة تحلو لنا ويحلو لنا ربطها بذواتنا، ومن هنا نجعل من التأريخ محتوى لذواتنا وأنانيتنا، ونفرغ التأريخ من أي محتوى واقعي علمي له، ومن هنا ستكون مسألة (مقاطعتنا) للتأريخ إنما هي مقاطعة لذواتنا وأنانيتنا وهذا ما لم نتعود عليه نحن لحد اللحظة، نحن الشرقيون (حملة المبادئ والمعتقدات)، كيف سيمكننا العيش مع مقاطعة ذواتنا؟ ."

كل ذلك ينقلنا إلى نقطتين، في غاية الأهمية: الأولى منهما وهي ضرورة التمعن عند قراءتنا لأي نص تاريخي، والحاجة الماسة إلى إجراء ما يمكن إجراؤه من مقارنات مع أكثر من سرد تناوله أكثر من مؤرخ. ذلك أنّ التاريخ، كما نردد "يكتب بصيغة ولغة المنتصر المكلل بالغار دون أي موضوعية، وكأن الذي يملي التاريخ يعيش في مدينة فاضلة ليس فيها عيب وعهده يخلو حتى من شبه متسول أو فقير أو مظلوم مكلوم، وهذا يعتبر المفتاح إذ قد نجد بعض التواطؤ بين كاتب وشخصيّة جوهريّة في تاريخ ما فتجد المدائح والقصائد والأوصاف والنعوت المنقطعة النظير تنهال على إنسان دون غيره". النقطة الثانية وهي أنّ على القراءة وهي تتوخى الموضوعية، أن تبتعد هي الأخرى عن التقديس والطوطمية، التي تجردها، بوعي أو بدون وعي، عن الموضوعية التي تحولها من حالة الاجترار التي نحذر منها إلى مرحلة الاستذكار الحيوي التي ندعو لها. والفرق بين المدخلين في غاية الوضوح، فبينما يكرس الأول ذهنيّة الخضوع للماضي والعيش فيه، ويحجب القدرة على الاستفادة منه وتطويعه لما فيه خير الأمّة ومستقبلها، يرسخ الثاني عقلية التقديس المتهافت على ذلك الماضي، والمصر على الوقوع في براثنه، فيتحول إلى أسير له، غير قادر على التخلص من قوانينه.

وخلاصة القول إننا بين خيارين لا ثالث لهما إمّا استذكار التاريخ بشكل ديناميكي، حيوي، مبدع، أو اجتراره على نحو جامد، متكلس، مدمر!