حاجة العرب إلى التنوير

د. يحيى أبو زكريا

ما لم يفهمه المسلمون، ويستوعبوا معادلته؛ أن الفريضة الأولى والمركزية في الإسلام: هي التعلم والقراءة..

فقد كانت أول آية نزلت على رسول الإسلام، اقرأ باسم ربك.. ولفظة اقرأ وردت بصيغة الأمر، والأمر يدلّ على الوجوب عند علماء الفقه والأصول، وصحيح أنّ المخاطب هو رسول الله، لكن عموما من ينتمي إلى هذا الدين ومن أرسل إليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مشمول بالأمر الرباني الأول: إقرأ، حيث فرض التعلم والقراءة قبل الصلاة والصيام والحج والزكاة، لأنه بالقراءة نبني الدنيا ونعمّر الأخرة.. وتعتبر الثقافة التنويرية الركن الركين في الحضارة الإنسانية والتراث البشري، وعلى الدوام كان تقدم الأمم والشعوب يقاس بمدى إهتمامها بالثقافة التنويرية العقلية التي شكلّت ماضيّا وستشكل حاضرا ومستقبلا أهم عامل من عوامل النهوض والوثبة الحضارية. ولم تتراكم الإخفاقات والانتكاسات في الواقع العربي إلا بعدما بات ملف التنوير مطويا، وبعدما تمّ تجريد الثقافة من صلاحيتها في ترشيد مجالات الحياة المختلفة. ولا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن أي دور للأمم والأفراد بمنأى عن التنوير الذي به دون غيره نلج الخارطة الكونية دون إلغاء خصائصنا ومميزاتنا. والثقافة التنويرية ليست مجرّد إمتاع ومؤانسة كما يتصوّر كثيرون بل هي التي تعطي للشخصيّة الإنسانية بعدًا عالميًا وتتيح إيجاد جسور تواصل بين بني الإنسان والأكثر من ذلك فهي التي تقرّب الفجوات بين البشر بمختلف توجهاتهم العقائديّة والمذهبية والدينية وغيرها.. تعتبر المعركة الراهنة في العالم العربي بين مشروع التنوير ومشروع التكفير من أخطر المعارك التي عرفها المشهد العربي والإسلامي، والتي ستحددّ لمئات السنين مسار الصيرورة في عالم عربي انفجرت ملفاته وتكالب عليه الأعداء من كل جانب. وفي ماضي الصراعات في خط طنجة – جاكرتا كان الأعداء من الداخل وتارة من الخارج، وفي هذه اللحظة العربية الحرجة والخطيرة تحالف أعداء الداخل والخارج في معادلة كيميائية تفجيرية قل نظيرها. والظلامية التي أسس لها الموروث الظلامي والعقل الصهيو-أمريكي أنتج أحكاما شرعية في الراهن الإسلامي تستدعي الناتو، وتمجد التدخلات الغربية في بلادنا، بل وتجعل الكيان الصهيوني بريئا ونزيها مقارنة بحكام عرب اعتبروا كفارا وزنادقة، وباتوا في دائرة الاستهداف الفقهي والإسلامي.. ومن خلال هذا المشروع انفرط الإجماع في العالم العربي والإسلامي، وتبددت قوة الأمة الجماعية، ودب الخلاف والتكفير والزندقة والفتاوى الكوميدية والصراع السني الشيعي؛ ومعروف من يحمل لواء التأجيج له وإذكاء أواره.. و ما لم يتحرك العقل العربي لوضع حد لهذا الاختراق الخطير لقلاعنا الفكرية والاستراتيجية والحضارية، فسوف تستمر سلسلة الانهيارات الكبرى في العالم العربي والإسلامي.

وجوب غربلة الموروث العربي

يجمع الكثير من العلماء والمثقفين على أن الموروث الإسلامي ألمت به تحريفات وإضافات أخرجته عن مساره العقلاني والواقعي.. وقد تسرطن الإرث الديني تسرطناً، وكل جيل كان يضيف إليه عفونة وسرطانات جديدة على وقع الإعجاب الدائم على قاعدة أنّه من الله تعالى ولا بد أن لا يخضع لغربلة نقدية وإعادة صياغة، وهذا ما جعلنا خارج التاريخ والجغرافيا والمستقبل والكوكبية، وعلى الرغم من أنّ معظم علماء التفسير يقولون أنّ القرآن كتاب لآخر الزمان ونهاية الكون لكنّهم يعتمدون في تفسيره على ما أفرزته عقول التفسير في القرن الأول والثاني الهجري، فأين السرمدية والصيرورة القرآنية التي يتحدثون عنها والمسلمون يتقاتلون بينهم بسبب الطائفة الناجية، وهم بذلك خسروا الدنيا التي ملكها الغرب والكيان الصهيوني، ويقينا الأخرة ليست للمتحاربين والمتخاصمين، والنتيجة لا دنيا ولا آخرة.. لقد ورثنا من الماضي أثقالا تلو الأثقال من الترسبّات الفكريّة، ولجأنا إليها في حلّ كل مشكلة تطرأ على واقعنا، ناسين أو متناسين أنّ الفكر وليد البيئة، والتراث الذي وصلنا إنّما عالج مشكلات كانت مطروحة في الحقبة التي وجد فيها، وتلك الحقب الماضيّة التي نستلهم منها كلّ علاج لجميع مشاكلنا، إنّما اكتنفتها ظروف خاصّة وحالات معينّة ومحددّة، وليس المفكّر هو الذي يعالج الواقع من منطلق كتاب دوّن في الطور الأوّل من العصر العبّاسي، بل الصحيح أن ينطلق هذا المفكّر من الواقع لحلّ المشكلة، دون التخلّي عن الثوابت الشرعيّة، وعن الكتاب والسنّة الصحيحة، إنّه من الخطأ بمكان أن ينطلق المُفكر من كتب عالجت المشاكل الاجتماعيّة في حقبة المماليك والتتّار ليستخرجّ منها الدواء الشافي لمجتمعاتنا. وتجدر الإشارة هنا أننّا لا نقصد البتّة لدى حديثنا عن الموروث الحضاري الكتاب والسنّة الصحيحة، بل المقصود هو النتاج الفكري الإسلامي الذي أنتجته العقول الإسلاميّة من صدر الإسلام وإلى يومنا هذا. وليس المطلوب على الإطلاق التخلّي عن التراث، بل المطلوب إعمال العقل ومحاولة الإبداع في كل المجالات، ولعلّ تقصيرنا في مجال الإبداع وصياغة خطاب عربي وإسلامي عصري أدّى إلى ارتماء النخب العربية والإسلامية في أحضان مدارس فكريّة لا تمّت بصلة إلى واقعنا العربي والإسلامي. وقد وجدت هذه النخب في الخطاب الغربي سهولة في الفهم وعصريّة في الطرح واستيعابا لتفاصيل الحيّاة. وحجم الآفات التي تعصف بعالمنا الإسلامي من قبيل الأميّة والفقر والجهل والمديونيّة وأزمة التغذيّة وكثرة الوفيّات وسوء توزيع الموارد الأوليّة والبطالة وقتل الوقت والبيروقراطيّة وما إلى ذلك، تتطلبّ فكرًا يستوعب كل تفاصيل هذه الأدواء، ويقدّم دواء شافيّا واقعيّا لا طوباويّا.

[email protected]