عيسى الرَّواحي
احتفلتْ الأمة الإسلامية، قبل أيام، بذكرى المولد النبوي الشريف، الذي كان مولده إيذانا بحياة هانئة للبشرية، بل إنَّ مبعثه كان رحمة للعالمين، يقول الله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء:107).
وقد ذكرنا في أكثر من مقال سابق أنَّ الحب الحقيقي للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يتمثل في اقتفاء سيرته، والعمل بأوامره، واجتناب نواهيه، وأوضحتُ أنَّ الخلق العظيم هو أعظم وصفٍ وُصِفَ به النبي الكريم الذي بُعِث ليتمم مكارم الأخلاق؛ يقول تعالى: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (القلم:4).
وبما أنَّ هذا العصر الذي نعيشه هو عصر التقنيات الحديثة وعصر وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة، فإنَّ امتثال التوجيهات النبوية والأخلاق المحمدية في استخدام هذه الوسائل ضرورة لابد منها؛ كي نُحقِّق فوائدها المرجوة، وثمارها المتنوعة؛ فالأخلاق هي صمام الأمان في كل حركاتنا وسكناتنا.
ورغم أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي من نعم الله العظيمة في هذا العصر على العباد؛ فقد وفَّرت عليهم كثيرا من الجهد والوقت والمال في تحقيق مصالحهم وقضاء مآربهم؛ فإنَّ ما تشهده ساحاتها المليئة بالأخطار والآثار، جعلت مساوئها عند طائفة كثيرة من المستخدمين أكثر من محاسنها، وأضرارها أكثر من منافعها؛ فبسببها هُدِرت الأوقات، وانتُهِكت الحرمات، وتفشَّت كثير من مساوئ الأخلاق، وكل هذا يرجع إلى سبب رئيس؛ وهو: الابتعاد عن التوجيهات النبوية في تعاملنا واستخدامنا لهذه الوسائل، ومتى ما كان المستخدم لهذه الوسائل بعيدا عن التزام النهج النبوي، فإنَّ استخدامه لها سيكون وبالا عليه عاجلا أم آجلا.
يُهدر كثير من الناس أوقاتا كثيرة في غير منفعة في استخدام هذه التقنيات؛ حتى أصبحت هذه الوسائل أكبر مُضيِّعات الأوقات في مُختلف الفترات، ومع ما يُصاحب إضاعة هذه الأوقات التي هي أغلى ما يمكله الإنسان تضيع معها حقوق وواجبات، فقد يفرط المرء في أداء فرائض دينه، ويقصِّر في حقوق أسرته وأولاده، ويُهمل في أداء واجباته، وهذا بلا ريب يتنافى مع قدسية الوقت ومكانته في الإسلام، فأين نحن من التوجيه النبوي في أهمية الحفاظ على الأوقات واغتنامها؟! فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن شبابه فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ"، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".
ثم إنَّ الحديث والمراسلة فيما لا فائدة منه، وإن لم تكن به أضرار، فإنما هو لغو، واللغو يتنافى مع صفات المؤمنين، يقول الله في وصفه لعباده المؤمنين: "وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون" (المؤمنون:3)، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنَعَ وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ".
ولا رَيْب أنَّ ساحة هذه الوسائل تضجُّ بالأخبار والأنباء، ويتناقل كثير من المستخدمين صغير الأخبار وكبيرها، قريبها وبعيدها، من سوالف الحارات إلى أخبار القارات سواء أكانت تعنيهم أم لا؟! وسواء أكان في نقلها مصلحة أم لا؟! وسواء أكانت الأخبار صحيحة أم غير ذلك؟! فالمهم هو نقل الخبر دون نظرٍ إلى مصدره أو التثبت من صحته أو جدوى نشره؛ لذا تشيع الشائعات بشكل كبير في ساحة هذه الوسائل؛ إذ وجدت بيئة خصبة لترعرها ونموها من فلاحين مهرة في هذا الشأن، فأين هم من النداء الإيماني في الكتاب العزيز؛ حيث يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" (الحجرات:6).
وأين هم من التوجيه النبوي في هذا الشأن، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "كفى بالمرء إثما أن يُحدِّث بكل ما سمع"، وفي رواية أخرى عن حفص بن عاصم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع"... هذا وللحديث بقية في مقالنا القادم بإذن الله تعالى.
issa808@moe.om