مرتضى بن حسن بن علي
الأزمة التي يواجهها العرب عنيقة ومعقدة وشائكة، وتتداخل وتتشابك وتتفاعل فيها أسباب عديدة، وأظن أن الأوان آن لنعترف بشجاعة بأنها ليست وليدة مؤامرة خارجية فقط، أو أنها ناتجة من مُجرد مصادفات. فكما أن العامل الخارجي لم يمنع دولاً وشعوباً أخرى من تجاوز مشاكلها بل استثمرها لمصلحته، كذلك فإنّ العقل والمنطق يشيران إلى أن تكرار الظواهر وحالات الإخفاق يعكس خللاً هيكليًا داخلياً أكثر من المصادفة. ومهما كان من تأثير العامل الخارجي الذي لا يمكن إنكاره وإن كان من الضروري وضعه في إطاره المناسب والصحيح، فإنَّ العامل الداخلي هو الأهم والأقسى لأنه من صنع العرب أنفسهم وهو لاصق بهم التصاق الرمش بالعين والراحتين بالأصابع.
تقول الأساطير القديمة بأنَّ البحارة كانوا يقبلون على الصناديق الموجودة على ظهر السفينة يفتشونها على أمل أن يعثروا على جثة مخفية في أحد الصناديق كانوا يعتبرونها سبب بلائهم وحظهم العاثر، متى ما حدَّقت بسفينتهم المتاعب وتلاطمت حولها أمواج البحر وتجاذبتها الرياح العاتية وأدت بتوازنها العواصف الهوجاء. ومتى ما عثروا على تلك الجثة ألقوها في البحر معتقدين بأنّها سوف تكون نهاية محنتهم وبلائهم.
ويبدو أننا إذا حاولنا تكرار التجربة نفسها في السفينة العربية المتلاطمة حيث عصفت بها الرياح واضطربت بها الأمور واختلت فيها الأوضاع، فإنَّ البحث سوف يقودنا إلى اكتشاف جثث عديدة متعفنة وليست جثة واحدة.
وتراكم تعفن الجثث أدى إلى خراب وفساد في البيئة العربية كلها، وما زالت روائح التعفن تطاردنا وانتشرت مناطق الالتهاب لتسرى في الجسم العربي كله. ومع استعمالنا لكل العطور والبخور فإنها لم تتمكن من الحد من رائحة العفن.
قامت أصوات منذ بداية القرن الماضي تنادي بالإصلاح وضرورة ردم الهوة السحيقة التي تبعدنا عن العالم المتقدم. ولكن يبدو أن أكثر الأصوات كانت خجولة في درجة معرفتها لحجمها. إضافة إلى ذلك فإنها لم تكن تمتلك الأدوات اللازمة للقياس والتشخيص أو الخبرة الكافية لإعطاء العلاج المناسب، وربما كان البعض يدعي الطب بينما كان يمارس السحر والشعوذة. وربما كانت بعض الأصوات غير أمينة ولا صادقة فيما كانت تردده من شعارات أو أن قوى الشد الرهيبة في المجتمعات العربية أرغمتها على التراجع ولكن بعد أن تاهت في دروبها المُتعرجة. وهذا ما يُفسر أن القوى السياسية التي كانت تطالب بالبدائل لم تكن أحسن من سابقاتها إن لم تكن أسوأ عندما سنحت لها الفرص أن تمسك بزمام إدارة مصائر مجتمعاتها وأن تكون هي البديل. ولكي نشعر بلذة الطمأنينة ووهم الأمان، بدأنا تناول الأقراص المهدئة وبنهم شديد حتى تحولت العملية إلى عادة مستشرية حيث كانت الأقراص من ذلك السم الممزوج بالعسل يعطينا نكهة لذيذة دون أن ندرك أنّ العسل سوف ينتهي مفعوله ليبدأ تأثير السم القاتل وينتشر مفعوله إلى الجسم كله ليقضي على جهاز المناعة فيه.
إنّ كثيرين منِّا غير مدركين أنهم ينظرون إلى ظاهرة التأزم المحتقن في العالم العربي بطريقة أحادية ومن زاوية معينة، وبالتالي فإنهم لا يرون من هذه الظاهرة إلا عنصرا واحدا من عناصرها العديدة والمعقدة ويصلون إلى قناعات ساذجة بأن ما شاهدوه هو الظاهرة كلها، بينما الحقيقة أنهم لم يطالعوا غير وجه واحد منها ورصدوا ذلك الجانب الذي وقعت عليه أعينهم، دون أن ينتبهوا إلى أن للظاهرة مكونات وظلال أخرى لم تتح لهم الفرصة ليروها، سواء لأنها تتجاوز مدى رؤيتهم أو لأنها حجبت عنهم أو لأنهم ببساطة أشاحوا بوجوههم عنها ولم يرغبوا في رؤيتها أو لأنهم اعتقدوا بأن ما يشاهدونه هو الضوء المنعكس من نهاية النفق بينما كان في الحقيقة انعكاساً لضوء من بداية النفق. وأسباب كل ذلك تقع ضمن ظاهرة التأزم التي نعانيها. ومع الأسف فإن أطرافًا عديدة تفقأ عينيها لكي لا ترى الحقيقة مثلما فعلها ذات يوم (أوديب) حسب الميثولوجية الإغريقية القديمة.
أطباء المجتمع المدركون لطبيعة المشاكل وجذورها، وهم الكتاب والمثقفون والمفكرون - أصبحت كلماتهم مختطفة أو محتقنة أو مغتصبة. إن أي كاتب مدرك يحاول أن يصل إلى نقطة العورة يرى أن مهمته أصبحت عسيرة جدًا. وليس سبب ذلك هي الحكومات فقط، وإنما المجتمعات بعاداتها المتصلبة تجهز على الكاتب قبل الحكومات. ذلك لأنّ الحقائق العلمية لم تتسرب إلى صميم وعي وأجواء مجتمعاتنا، وتصرفاتها مشوبة بكثير من الأوهام التي تؤدي الى مظاهر فاضحة من الخداع والانخداع. وفي الحقيقة فإن ذلك من الملامح الرئيسية للأزمة التي نُعانيها، وهي نتيجة للتجارب التاريخية التي كنا خاضغين لها. فالمجتمع مثل الفرد، في أية مرحلة من حياته هو نتاج لخبرات مراحل سابقة من هذه الحياة التي أضفت سمات متميزة على شخصيته.
داخل وعينا الباطني مساحات كبيرة تتسع لكل القيم القبلية والعشائرية والمذهبية والطائفية والخرافية، وفيها مساحات تقام عليها مضارب الخيام حيث توزع أقداح القهوة وتتلى أبيات الشعر وتسرد قصص "التاريخ" في بطولاته وفتوحاته وأمجاده من دون التطرق إلى تأزماته ومشاكله وحروبه الداخلية وتعقيداته وأوهامه وترسباته. وفي الجانب الثاني تقابلنا التقنيات الحديثة وشبكات"الإنترنت" والهاتف الذكي والانفتاح الإعلامي الثقافي الحضاري العالمي وتقوم وسائل الاتصال السريعة بل والآنية بعبور الحدود الجغرافية دون قيود ولا شروط برسائلها ومضامينها، دون وجود قدرة لدينا على هضمها واستيعابها.
وكرد فعل في مواجهة ذلك نحاول التعويض عن عجرنا وإخفاقنا بالتشدق بالماضي ومواجهة الواقع المنهار بالمقولات "الفكرية" القديمة التي تحمل معاني العزة والكرامة والشرف، ونقتنع بالأجوبة السهلة للأسئلة المعقدة واجترار ما عهدنا من التغني بالماضي. فنحن أمة عظيمة وعلماؤنا وفلاسفتنا علموا أوروبا والعالم. كل ذلك يجري دون أن نُدرك أن التغني أصبح مظهرا غير صحي ولا حضاري لأنه يصرفنا عن النظر إلى قضايا الحاضر والمستقبل، وبالتالي فإنّ هذا التغني هو أحد عناصر الأزمة التي نعانيها.
كيف ينظر العالم الخارجي إلينا يا ترى؟ لماذا تتوسع الفجوة بين السطح والقاع وتزداد المساحات بين الشرائح الاجتماعية وتنقرض الطبقة الوسطى الحافظة للتوازن الاجتماعي؟ كم من العلماء والفلاسفة والمبدعين الذين انتجناهم وما هي الإنجازات التي قدمناها للعالم خلال العقود العشرة الماضية؟ أين هم خيرة علمائنا الذين انتجتهم الجامعات الأجنبية وكم من هؤلاء حافظنا عليهم ولماذا فضلوا الرحيل إلى المهجر حيث تشعر الدول المتقدمة ومن ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية إلى مزيد من الحاجة لأصحاب الكفاءات العالمية والمهارات المدربة وتصدر قوانين خاصة لاستيعابهم وإعطائهم الجنسيات؟ لماذا أصبحت البيئة العربية طاردة للكفاءات في الوقت الذي نحن بأمس الحاجة إليها حيث ما زلنا نرزح تحت أعباء التخلف والمراحل الأولى من النمو والتطور؟ لماذا نحن محاصرون بتناقضاتنا وفيها، وتتباعد يومًا بعد يوم مساحة الاختلاف بين ما تردده الألسن وما يجرى في الواقع من تصرفات؟ .
وإذا كانت المقدمات تؤدي إلى النتائج كما يقول المناطقة، أي أن النتائج يمكن أن تستشف من قراءة المقدمات المطروحة، فما هي المقدمات التي أوصلتنا إلى هذه النتائج المأساوية؟ لماذا تعاظم الانفصام بين "الوعي" الذي جرى تزييفه باستمرار بالمخدرات "الفكرية" والحبوب المنومة والأوهام وبين"الواقع" الذي لم يتم اكتشافه بعد؟.
appleorangeali@gmail.com