ديناصور من عصر الطبشور..

 

عائشة البلوشية

 

عُدت لعُمان والقلب يهفو شوقاً إلى ثرى هو أغلى من التبر بأصفار ضوئية، زيارة خاطفة لكنها كانت جرعة مضغوطة من الطمأنينة، تعينني على التَّعايش بروح التفاؤل في بلاد الغربة، فتحت أحداقي على أقصى اتِّساع لهما ﻷروي ظمأ روحي وأنا أمتعهما بالنظر من نافذة طائرة الطيران العُماني، لمسقط العامرة بالحب والعمران الآخذ في الامتداد، أنظر إلى أوَّل مدينة عربية في العالم العربي تفتح شباك الشمس كل يوم، وترحب بأشعتها وتحمد الله على كرم عطائه، وتسأله أن ينعم بالأمن والاستقرار والسلام على ربوع العالم العربي والإسلامي والعالمي، وتحط الطائرة عجلاتها على مدرج الهبوط، والخافق يدق برتم صلوات التحنان لنسيم بلاد السلام....

 

بعد أن أخذت قسطًا من النوم توجهت إلى العراقي -المنزل الراقي- بولاية عبري، فأخذتني المشاعر إلى تخوم الطفولة، حيث القرون المُتناثرة (مفرد قرن ويقصد بها الهضاب الصخرية الكبيرة)، وفي الضفة الأخرى للوادي -وادي الكبير- شدتني رائحة الأرض المُبللة بماء المزن المثقلة بخيرات ربها، فطفقت أصعد أعلى القرن وأنظر إلى تلك الأعشاب المختلفة مرددة أسماءها وابتسامة التحدي تعلو مُحياي، فقد تحديت نفسي في إيجاد الـ (مقل)، وهي عشبة صغيرة، كانت خالتي مريم بنت سيف تطلب منِّا في طفولتنا أن نصعد إلى القرن لنحضر لها بعضاً منها لتطحنها مع الكُحل، فهي حسب قولها مُفيدة للنظر، وﻷنني شاهدت بعضًا منها ابتسمت شاكرة ربي أنّها لم تنقرض حتى الآن، ثم أخذتني تلك الربوع بسحرها حتى وصلت إلى "قرن الكبش"، وهو معلم طبيعي ينتصب صامدًا أمام الحرارة اللافحة صيفاً، والبرودة القارسة شتاء، ﻷشاهد نفسي مع شقيقتي في طفولتنا بصحبة جدتي -أطال الله عمرها- والغيوم تغلف الأجواء، ونحن نترقب وصول "وادي الكبير"، لنركب السيارة وننطلق عائدين إلى العراقي والبشرى تسبقنا بوصول الوادي، وأن فلج العراقي وفلج العينين سوف يكونان غزيرين في الشتاء القادم، وعدت من الماضي على حركة غريبة، فقد اهتز القرن بجانبي وكدت أسقط على وجهي، ما الذي يحدث؟ يا لهول ما أرى!، فقد بدأت كميات هائلة من الأتربة والصخور تهوي من قمة القرن إلى القاع، وبدأت أرى فراغًا يتشكل أسفله، وبينما أفرك عيناي دهشة، سمعت صوتاً آت من أعماق التأريخ الأحفوري، قائلاً: لا تخشي شيئاً فأنتم لا ترون مني سوى ذلك القرن الرابض فوق هذه الأرض، ولكنني أساساً أحس بكم وأرقب الحقب الزمنية التي مرَّت بي، فأنا ديناصور من فصيلة الأنكيلوسورس، رغم أنني حسب تقسيماتكم البشرية من غرب أمريكا، إلا أنني لا أعرف كيف انتهى بي المقام لديكم، ولكنني أتذكر أنني كنت في عراك مع ديناصور آخر من أبناء عمومتي، فقد كنت الأضخم حجماً بين أقراني من نفس فصيلتي، حيث يبدو أنَّ التهامي للكثير من النباتات أعطاني بنية ضخمة، وعندما هممت ﻷن أضربه بذيلي القوي أصبت في قدمي إصابة بالغة فبركت في هذه البقعة، ومنذ العصر الطباشيري وأنا صامت ومتحجر هنا، ولا أظهر حقيقتي إلا لمن أراد أن ينظر إلى عمق وأصالة هذه الأرض، فكم من عابر تفيأ ظلي وحدثته عن عمان، وكم من مستأنس بنجوم ليل هذا الوادي سامرته عن مجان، ولكنها المرة الأولى التي أناجي فيها بشراً في وضح النهار، ووسط هذا الكم الهائل من الذهول والعجب، سألته وما الذي عرفته أنت منذ ذلك الحين؟ فقال لي إنه وبعد انقسام بقعة اليابسة إلى قارات، وتمدد البشر في تجمعات ومستعمرات إنسانية، طالت مسافات السفر بينهم، وأصبحت هذه البقعة من أرض مجان أو عمان معبرًا للظاعنين والقوافل، وكم من قافلة أراحت رواحلها وافترشت ظلال السمر المنتشرة حول غيل الماء المنساب تحت القرن، فسرى اسمها بين المرتادين عبر الزمان وسميت بـ"عبري"، ومع استمتاعي بالحديث مع ذلك الأنكيلوسورس، رأيته يجلس وهو يئن ألماً في مكانه قائلاً: كنت أتمنى أن أمضي معك في جولة عبر هذه الامتدادات، ولكن يبدو أنّ كل هذا الزمن لم يكن كفيلا ليساعد جرحي في الشفاء، لذلك سأعود إلى رقدتي الطويلة، واستمتعي خلال هذه الأيام المتبقية لك على هذه الأرض، وحاولي الربط بين القديم والحديث لتصلي إلى خلاصة العيش والتعايش...

 

وأنا أمضي في ذلك الطريق الملتوي، ومع كل انحناءة أجد حكاية معلم بشري أو طبيعي، وما أروع تلك الطرق المرصوفة التي لا تهاب جبلاً، ولا تأبه بواد، ليصل إلى أذني صوت رجل يقول:"بونجورنو"، فيرد عليه الآخر التَّحية الصباحية، وأنا أتساءل: ما الذي أتى بهؤلاء الأجانب من الجنسية الإيطالية هنا؟، هل هم سياح ضلوا طريقهم؟، فترجلت وخطوت نحوهم وحييتهم متسائلة عن كيفية تقديم المساعدة لهم، فابتسموا بحبور واضح، وأجابوني بأنَّهم في هذا المكان الزاخر والثري لاستخراج الآثار المهمة التي تمّ العثور عليها هنا في قرية العارض، أثناء رصف طريق ازدواجية عبري -ينقل، وفي هذه الآثار قبور تحويلية تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وأن الغريب والذي يكتشفونه ﻷوَّل مرة هو وجود عظام بشرية داخل الأواني الفخارية التي عثروا عليها، فتأملت ذلك المكان الذي كان أطلالاً لا يأبه لوجودها أحد، وأضحى من الأهمية بمكان أن ساق الله إليه المستكشفين واختصاصيي الآثار، فشخصت ببصري وابتسامة تعلو محياي إلى حيث يرقد ذلك الديناصور، ﻷرى ظهره المحدودب الذي يشكل قمة القرن، فربما كانت هذه المقابر أحد تلك الحضارات التي جال حولها الأنكيلوسورس، فشكرت أولئك الرجال، وأنا أرجو أن يمثل ذلك الاستكشاف الأثري رافدا ثقافيا يعطي معلومات جديدة عن الحضارات التي مرت على أرض السلطنة، فانتبهت من نومي على صوت المُنبه الذي يُعلن توقيت الاستيقاظ للذهاب إلى أرض الواعدة عبري، فابتسمت عندما تذكرت تفاصيل ذلك المنام الطويل، والذي أتى بعد أن تابعت تفاصيل خبر العثور على المقابر التحويلية في قرية العارض...

 

النهضة العمانية مستمرة، وعزيمة الإنسان العماني في عمارة الأرض لا تتوقف، وتطويع الطبيعة الشرسة لتيسير سبل الانتقال هي واحدة من وجوه الخير الكثيرة التي يحرص عليها كل عُماني أبي، ولكن الجميل في الأمر أن مكتسبات النهضة لا تدمر آثار حضارات كانت هنا في أزمنة غابرة، بل هي كما أراد لها مولاي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه-، البناء المستمر، فطريق مُعبد جديد أوصلنا إلى بقعة عمرها يربو على الخمسة آلاف عام، وأرجو أن تظل تلك الشواهد لإنسان عمان القديم، رمزاً باقياً نمر عليه بمركباتنا كلما سلكنا ذلك الدرب، تقول لنا: اعمروها بسلام ومحبة حتى تتذكركم أجيال المستقبل بالخير والشكر...

 

 

توقيع:

"خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به.. في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل" المتنبي.