حكاية ما قبل "النوم"!

 

 

 

مسعود الحمداني

 

تقول إحدى الحكايات العالمية إنَّ وزيرا في دولة ما، سرق أموال الشعب، وقوت يومه، ووصل خبره إلى الحاكم الذي أتى به، واحتار كيف يعاقبه على فعلته، وجمع حكماء الدولة ليقترحوا عليه أبشع قتلة، ويشيروا عليه بشكل الميتة التي يستحقها، واقترح الجميع أشكالا مختلفة، وطرائق فظيعة للإعدام، إلا أن الحاكم رفضها جميعا، وأمر رئيس العسكر بأن يذهب بالوزير السارق إلى أحد المستنقعات المليئة بالبعوض وقت المغرب، ويحلق له شعره، ثم يجرح رأسه الحليق بالموس، ويسكب عليه العسل، ويدفنه في التراب، على أن يبقى الرأس خارج الحفرة.. ثم يأتيه في الصباح بتفاصيل كل ما يشاهده.

ونفَّذ رئيسُ العسكر ما أمره الحاكم به، وجلس يراقب الوزير وهو يصرخ ألما، والبعوض يشرب من دمه، فرق له، وأراد أن يذبّ البعوض عنه، إلا أن الوزير أشار له برأسه أن يترك تلك الحشرات تفعل ما تشاء به، وبعد فترة من الوقت، انتهى البعوض من مهمته، وذهب بعيدا.. ونام الوزير ما بقي من سويعات الليل.

وفي الصباح، استدعى الملك رئيس العسكر وسأله عمَّا شاهده، فأخبره بتفاصيل تلك الليلة الغريبة، وكيف أنَّ الوزير رفض أن يُمنع البعوض من امتصاص دمه، رغم الألم، وهنا أمر الحاكم بأن يُخرجوا الوزير من الحفرة، ويلبسوه حلة جديدة، ويعيدوه إلى منصبه!

ووسط دهشة الحكماء والوزراء، وسؤالهم عن سبب عودة الوزير إلى منصبه، قال لهم الحاكم: "إنَّ حال مثل هذا الوزير كحال البعوض، يأتي بنهم، ويشرب الدم، حتى يشبع، ثم يهدأ ويعود من حيث أتى، وهذا الوزير أكل وسرق أموال الشعب حتى شبع، ولو أتيتُ بوزير جديد، لبدأ من جديد في السرقة، والنهب، والفساد.. لذلك فإن وزيرا شبعانا، أفضل من وزير جائع"!!

هذه حكاية تُطبِّقها الكثيرُ من الأنظمة العربية، وكأنَّ بلدانهم عَقِمَت عن أن تلد مسؤولا نظيفا ومخلصا، حتى أصبح الفساد المستشري في الجهاز الإداري والحكومي والمالي فيها صعبَ المراس، ولا يمكن أن يُقضى عليه بسهولة، وغاب دور الحساب والعقاب، ورُفع عن الإِهَاب سوط الجلاد، فمن "أمن العقوبة أساء الأدب"، ومن أساء الأدب لم يردعه حاكم أو محكوم، ولم يوقفه ضمير أو دين؛ فالمال السائب يعلِّم السرقة.

وسرقة المال العام هي الداء المستفحل الذي يفتك بالأمم، ويهز كيانات الدول، ولعل الشعوب اعتادت على التذمر دون فعل، حتى إذا اشتدت الأزمات، ولم يجد الناس بدّا من الفعل، قاموا بما لا يحمد عقباه؛ لأنَّ الموت والحياة يتساويان في نظرهم، ففقدوا كل بارقة أمل، فإما العيش في بلد منهوب، أو الهجرة إلى وطن غريب، وإما الرضوخ والسكوت على الأمر الواقع، أو تغيير هذا الواقع بأي ثمن.

تتناقل وسائل الإعلام أخبار مظاهرات صاخبة ضد رئيسة البرازيل بسبب عدم شفافيتها في معلومات تتعلق بالميزانية، وضد رئيسة كوريا الجنوبية بسبب (واسطة) لصديقتها، واستقالات لحكومات بسبب -نراه نحن هنا في العالم العربي- تافها واعتياديا، كاستخدام وزيرة نمساوية بطاقة الحكومة لتعبئة سيارتها الخاصة بالوقود، أو قيادة وزيرة لسيارتها تحت تأثير الكحول!! بينما نسمع في المقابل عن وزراء عرب أصبحوا في قائمة مليارديرات العالم بين ليلة وضحاها، رغم أنهم لم يكونوا يملكون قبل مناصبهم غير الكفاف، وآخرين بنوا ناطحات سحاب، ومنتجعات للتصييف، وهم الذين لم يكونوا يمتلكون حتى عريشا للقيظ، ومسؤولين أصبحت لديهم إقطاعيات من الأراضي والممتلكات وهم الذين لم يمتلكوا يوما غير منزل قديم مرهون للبنك.. وغير ذلك الكثير والكثير. هؤلاء المسؤولون أو المواطنون أخذوا من الدولة بأيديهم وأرجلهم وبكل ما يملكون من صلاحيات وقت الرخاء، واختفوا عنها وقت الشدة.

الحكاية التي سقتها في البداية يمكن تطبيقها في دولة تقليدية لا تمتلك الكفاءات والعقول ورؤوس المال، ولكنها لم تعد نافعة لدولة عصرية متطورة تريد أن تجد لنفسها مكانا بين الدول، وترفع شعارات العدل والمساواة الاجتماعية، ولا تطبق من ذلك شيئا.

فتحيَّة إجلالٍ وإكبارٍ لكل وزير أو مسؤول أمين ومُخلص في أي مكان، وهم -رغم قِلَّتهم وندرة تواجدهم- بمثابة الرهان الذي يُمكن أن يراهن عليه الوطن، ويتشبث بقشته المواطن البسيط قبل أن يغرق!

Samawat2004@live.com