عُمان تُربِّي الأمل.. فلا تُربُّوا الكراهية في الخليج

 

د. سيف المعمري

حين يأتي شهر ديسمبر تبدأ مناورات خليجية كبيرة رسمية وفكرية وإعلامية ليس من أجل الترويج إلى فكرة الاتحاد الذي يظن من يتكلمون عنه أنّه بساطة مجرد قرار وتوقيع وإعلان وإشهار، ولكن لمهاجمة عمان وأهلها وإطلاق أبواق صحفيّة وإعلاميّة بحرية لذلك، يتهمونها بأنّها عامل ضعف من خلال رفضها للاتحاد، ما الذي سيغيره؟ اتحاد تبقى معه كل الخلافات، وتبقى كل الحدود والقلوب مغلقة أمام أي تغيير، تغيير في العقول التي ترفض أي تغيير رغم كل ما مرّ على الخليج، ورغم كل ما تغيّر في الخليج، فالصحراء لم تعد صحراء، والبحر لم يعد بحرًا، والإنسان في الخليج لم يعد إنساناً، صار إنسانًا لا يسمع إلا نفسه، صار إنسانًا لا يرى في المرآة إلا نفسه، صار إنسانًا لا يصغي إلا للجنون الذي يبشره بالمستحيل، بدلا من أن يصغي إلى ما يطمئنه، لم تعد السماء في الخليج هي نفس السماء في مناطق أخرى.. فسماء الخليج سقفها مرتفع. والدول التي تملك مفاتيح الأرض والسماء تحرص على اختيار الأفضل لمواطنيها، فتعمل على تهيئة كل السبل لهم للوصول إلى السماء، والتنعم في نعيمها، أي حب يتمتع به المواطنون في هذه المنطقة! حتى يبعدوا عن القرية الآمنة وعن الثروات التي وهبها الله لها، والتي لم تكفِ لجيلين أو ثلاثة، ولم تكن قادرة على وضع سور حول الخليج كسور الصين العظيم، يحمي هؤلاء البشر من الخطر الذي يقترب بسرعة، ويغنينا عن فكرة الاتحاد، لم تنجح في صناعة قنابل نووية تردع كل ما نتجادل حوله اليوم، ونريد أن ننفي وجود بعضنا بعضا.. لم يفُعّل ذلك الذي يُربي الأمل بدلا من الخوف والقلق في المنطقة، هل هو قدر من الله علينا، أم مصير عملنا بدون وعي على الوصول إليه؟

أيًّا كانت الإجابات عن تلك الأسئلة فلا يبرر ما يجري دعوات الكراهية التي يطلقها البعض ضد عمان، وكأن عمان تتحمل ما وصلت إليه دول الخليج التي لم ترض أن تنأى بشعوبها عن الفتن، والصراعات، إنّما أصرّ البعض على أن يجعلهم وقودا لتلك الصراعات، عمان لا تريد إقناع مواطنيها بالصعود إلى السماء عنوة، تريدهم على الأرض لأنّها تؤمن أنّ على أرضها كما يقول الشاعر الكبير محمود درويش "ما يستحق الحياة"، لا تريد أن تبعث بهم لكي يغتالوا حياة غيرهم بدون هدف واضح، لا تريد أن تُربي بداخلهم الكراهية لا للأشقاء، ولا للأعداء، لأنّه لا أعداء لها، ولو سئل العمانيون من أعداؤكم لأجابوا بصوت واحد لا نعرف، أينما نولي لا أحد يظن فينا ظن السوء، فما يقر في قلوبنا. يرتسم على وجوهنا، لذا لن تطلق عمان صواريخها في أي اتجاه.. ستظل تطلق حمائمها البيضاء.. ولن تطلق كلماتها الجارحة لأي أحد. لكنّها ستظل ترد على كل من ينال منها بما ليس فيها، "سلاما"، فلا تحاولوا أن تغتالوا سلمها ولا أن تتجاهلوا سلامها.

أهل عمان يقولون لكل أولئك الذين يعملون بجد وإخلاص على بث الكراهية في قلوب الأشقاء الذين يريدونهم أن يقفوا على الحدود التي يرسمونها لتكون حدود الاتحاد الجديد، حدود الخليج الجديد الذي يزعمون أنّ ولادته متعسرة حتى الآن بسبب عمان، الحدود التي تفصل بين عالم يعيش فيه بشر موعودون بالفردوس والغفران والأمان والرخاء، وعالم آخر موعود أهله بالويل والثبور والفاقة، فمن هم المؤمنون بالخليج وأهله؟ ومن هم الكافرون به؟ لا تفكروا بمثل هذه الأسئلة وأنتم تقفون على حدود عمان، وأنصتوا إلى صوت أهلها الذي يناديكم منذ عشرات السنين:

أيّها الواقفون على العتبات ادخلوا

واشربوا معنا القهوة "العمانية"

فقد تشعرون بأنّكم بشر مثلنا

أيّها الواقفون على عتبات البيوت

أخرجوا من صباحاتنا

نطمئن إلى أننا

بشر مثلكم

 

سنين والبعض يحرص على إفساد صباحات ديسمبر الذي يأتي ليذكرنا أنّ الأعوام تمضي، والخليج يغرق في كثير من الإشكاليات، وأنّ أهل الخليج بمختلف مستوياتهم العمرية أطفالهم، وشبابهم، وشيبانهم، نساؤهم ورجالهم، تعبوا من إبعادهم عن كل ما يجري، تعبوا أن يقتصر فعلهم على "تربية الأمل" في غد أفضل بدون قلق أو حروب أو استنزاف أموال. هل سألتم أنفسكم أيها المندفعون إلى وهب أنفسكم لنشر الكراهية، من أجل ماذا تفعلون ذلك؟ كيف يأمن الذين تخاطبونهم.. والأخوة لا شيء يحميها من المزاج المتقلب، كيف يأمنون ولا شيء ثابت، فاللون الأبيض يدعي البعض في الغد أنّه أسود، والردود والقرارات تتقاذفها النسائم الخفيفة التي تتقاذف حبّات الرمال في الصحراء، لماذا لا نصغي إلى الحقيقة التي لم نصغي إليها من قبل، تلك التي سطرها الشاعر الفلسطيني الكبير والعميق محمود درويش وكأنّه يخاطبنا بها، ويقول لنا أنتم لا تفهمون إلا الشعر، ولا يطربكم إلا هو، دولكم تحتفل بالشعراء كما تحتفل الدول المتقدمة بالعلماء، فحاولوا أن تفهموا ما أقول، واعملوا به قبل أن تتفاقم الأوضاع:

واقفون هنا. قاعدون هنا. دائمون هنا. خالدون هنا.

ولنا هدف واحدٌ واحدٌ واحدٌ: أن نكون.

ومن بعده نحن مُخْتَلِفُونَ على كُلِّ شيء:

على صُورة العَلَم الوطنيّ

ومختلفون على كلمات النشيد الجديد

ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخترتَ أُغنيَّةً عن زواج الحمام

ومختلفون على واجبات النساء

ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخْتَرْتَ سيّدةً لرئاسة أَجهزة الأمنِ.

مختلفون على النسبة المئوية، والعامّ والخاص،

مختلفون على كل شيء. لنا هدف واحد: أَن نكون

ومن بعده يجدُ الفَرْدُ مُتّسعاً لاختيار الهدفْ.

 

 

 

لابد أن نجد متسعًا لاختيار الهدف طالما نحن مختلفون في التفاصيل الصغيرة، والهدف الأساسي هو أن نحافظ على وجودنا، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إذا كانت غايتنا أن ندعي وحدة سياسات هي في الأصل مختلفة، أو أن ندعي ملكية ثروات ومؤسسات واحدة. هي في الواقع معصية على ذلك، ولا يمكن أن ينال الخليجي منها إلا ما يناله الوافد القادم من وراء البحار وأحيانا أقل، ولا يمكن أن ندعي احترامًا لتنوعنا ونحن لا نرضى بتنوع في إطار وحدة كما هو الحال في مجلس التعاون، إنّما نريد اتحادًا بأي ثمن، ونريد ألا ننظر إلا من نافذة واحدة، ولا نخرج إلا من باب واحد، وفي ذلك مخاطرة يدركها الجميع بمن فيهم الذين التقيتهم الأسبوع الماضي، والذي يرون أنّ عمان اختارت الطريق الذي يتمنون أن تمضي فيه دولهم، لأنّهم يشعرون بقلق مما يجري حول الخليج، ويريدون أمانا واطمئناناً، فالجبهة الاقتصادية وحدها كافية لبث قلق كبير فكيف يكون الحال مع وجود جبهات عسكرية وسياسية وأحلاف وصراعات وعلاقات دولية معقدة.

أيّها الإخوة في كل الخليج، الذين أعرفهم، والذين لا أعرفهم، والذين حين نلتقي لا نلتقي غرباء، فلا نجهل الجغرافيا التي تجمعنا، ولا يمكن أن نصم آذاننا عن صوت الموج الذي يتلاطم على كل شواطئنا، أولئك الذين قالوا عن عمان ما بداخلهم؛ عن دفئها الذي تمنحه لهم حين تسحرهم خيوط الشمس الأولى حين تشرق من جنوب شرق عمان، الذين تحدثوا عن الإنسان الذي يصل فجرًا إلى قرية في واد عماني. ويجد القوم يتنازعون أمر استضافته وإكرامه وهم لا يعرفونه، الذين تعوّدوا في ديسمبر أن يجلسوا على شاطئ مطرح يسمعون القصص التي يرويها كبار السن هناك بعفويّة وبساطة، تعودوا أن يقابلوا شعبا مبتسما يرحب بالأشقاء والغرباء ويفرح بهم، الذين تعوّدوا أن يغوصوا في أعماق البحار العمانية، ويمضون على قوارب لصيد السمك منها، الذين تعودوا أن يخرجوا إلى جبالها وأوديتها لا يشعرون باطمئنان وانتماء إلا لها، أليس هذا حق تتمتعون به في عمان؟ ألا تستحق تلك الأوقات التي تعيشونها أن تظل عمان واحة آمنة بعيدة عن كل الصراعات؟

الأكثر قراءة