حمود الطوقي
أُطِلُّ عليكم بمقالي الأسبوعي هذه المرة من مُوروني عاصمة جُزر القمر الاتحادية، هذه الجزيرة التي تستضيف وفدا عُمانيا جاء إلى هُنا لتنظيم مؤتمر دولي، بأوامر سامية من لدن حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- الذي يحمل عنوان "علاقات عُمان بدول القرن الإفريقي"؛ حيث سيشارك -في الفترة الواقعة بين 6-8 من الشهر الجاري- باحثون ودارسون يُمثلون 11 دولة، بأوراق عمل ستتحدث بشكل تفصيلي عن العلاقات العُمانية الحضارية بجزر القُمر، وإثيوبيا، والصومال، ومدغشقر، وجيبوتي، وموريشيوس، وسقطرى، وهي دول القرن الإفريقي، وذلك بتنظيم مشترك بين هيئة المخطوطات والوثائق الوطنية من جهة، ووزارة الخارجية والتعاون الدولي في جمهورية جزر القُمر.
المؤتمر -كما يتضح من عنوانه- يحفر في العلاقات العميقة الحضارية بين السلطنة ودول القرن الإفريقي مُجتمعة ومنفردة، ويوثِّق الجوانب المهمة لتبقى في سِفر التاريخ، من خلال رصدها وقراءتها وتحليلها عبر المتحدثين الـ11 الذين يمثِّلون البحث العلمي من زواياه المختلفة التي تستقي بياناتها ومعلوماتها من وقائع التاريخ والمخطوطات والآثار المُشاهٓدة عيانًا والمتسقة مع واقع الحال عبر القرون.
وتكشف المحاور الخمسة التي سيحفل بها المؤتمر الخامس حول علاقات عُمان بدول القرن الإفريقي، الكثيرَ من الأبعاد التاريخية والاقتصادية والتعليمية والتربوية والزراعية والمعمارية والديموغرافية والأدبية، وهذه كلها تصب في صالح التأكيد التاريخي للوجود العُماني هناك، الذي لا تشوبه شائبة.
لقد حفلتْ العلاقات العُمانية بدول القرن الإفريقي بتناغم سكاني عبر الهجرات العُمانية إلى دول القرن، وهناك نشأت العديد من الصلات الاجتماعية التي أكَّدتْ نشوء الجوانب التاريخية التي جعلت الأصول مُمتزجة، وهو في الوقت ذاته ليس عائداً إلى الهجرات فقط، فحركة الملاحة البحرية أسهمت في نشوء تلك الهجرات، على اعتبار أنَّ القاسم المشترك هو التناغم والاندماج الذي كان محل ترحيب من الجانبين.
عُرف عن العُمانيين جهدهم الواسع في نشر الإسلام في معظم دول إفريقيا، ومن بينها دول القرن، فقد جاء ذلك من خلال التوسُّع العُماني، ومن خلال الصلات التي جمعتهم مع سلطنة زنجبار، وهو ما جعل العُمانيين يبرعون في ذلك من خلال التبادل التجاري مع دول القرن في نشر الإسلام عبر نموذج القدوة والسلوك الذي تحلُّوا به في علاقاتهم بتجار دول القرن الإفريقي، وهذا أسهم بشكل كبير في زيادة مستوى الاندماج بين شعوب تلك الدول وبين العُمانيين.
لن يغفل هذا المؤتمر دور العُمانيين في نشر التعليم في دول القرن الإفريقي؛ من خلال المؤسسات التعليمية، وحركة التأليف وإنجاز المصنفات العلمية، إضافة إلى نشر اللغة العربية هناك؛ كونها لغة الإسلام والعبادات المتصلة به، وكذلك تعلم لغات تلك الدول من جانب العُمانيين باعتبارها لغة الخطاب المشتركة، مما أنشأ قاسما مشتركا تجذيريا في التساكن والتكيف والتعلم المشترك، وهذا أثّر على الحركة الأدبية، والكتابات الشعرية، وكتب الرحلات...وغيرها من الجوانب الكتابية.
لقد مثَّلت الزراعة والتبادل التجاري عبر التجار من الجانبين عُنصرا مُهما في إضفاء طابع التكامل عبر الاستيراد والتصدير، وهذا ما أكدته الجمعيات الأهلية التي تكاتفت -فيما بينها- من أجل تسهيل الصلات التجارية والاجتماعية؛ مما جعل هذا الدور ينعكس على استقرار الحراك وتنامي منافعه وتعددها بين الطرفين العُماني وسكان دول القرن الإفريقي؛ ولم تكن الفعاليات الاجتماعية والدينية غائبة، بل إنها -بحكم دخول تلك الدول في الإسلام- انتشرت بينها احتفالات؛ مثل: الإسراء والمعراج، والمولد النبوي، ومناسبات العيدين الفطر والأضحى، بما صاحبها من تثاقف في العادات والتقاليد ذات الصلة بهذا الجانب.
أمَّا على مستوى المخطوطات والوثائق، التي ظل بعضها هناك، وبعضها الآخر مُتنقلا بين دول أوروبية بسبب حركة الاستعمار في مراحل عاقبة على الوجود العُماني؛ فهي بمثابة شهادات عابرة للعصور، موثقة الوجود والتأثير والتجذر العُماني في دول القرن الإفريقي.
إنَّ هذا المؤتمر يفتح بابَ التأكيد على أنَّ الوجود العُماني الحضاري الإيجابي الفاعل والمؤثر مُتحقق، ولنا أن نفخر بذلك كوننا عُمانيين.