مرحلة تضافر الجهود

حاتم الطائي

ما إنْ تدخُل قاعة مَعْرَض "تنفيذ" حتى تنتابك تلك الطاقة الإيجابية في بناء مُستقبل عُمان، وأنتَ تستمعُ إلى شرحٍ مُفصَّلٍ من شبابٍ في عُمر الورود يتحدَّثون بحَمَاس شديد، وبلغة الأرقام، والإيمان يشعُّ من عُيونهم بأنَّ الطريق صعبٌ لكنَّه ليس مُستحيلًا، يُقابل ذلك تجاوبٌ كبيرٌ من قِبَل الجهات المشاركة والمتابعة والداعمة للبرنامج، بما يُترجم حجم الآمال المعقودة عليه كنقطة ارتكاز مُهمَّة في مرحلةٍ مفصليةٍ من عُمر نهضتنا المباركة؛ استكمالًا لما تمَّ تنفيذه من برامج ودراسات، وحفاظًا على ما تحقَّق من إنجازات، وفق مُقتضيات ومُتطلبات المرحلة الحالية.

ولعلَّ حجم المبادرات التي أُعلن عنها مع انطلاقة المرحلة الثالثة من البرنامج؛ والتي اشتملت على مائة وإحدى وعشرين مبادرة في قطاعات: الصناعات التحويلية، والسياحة، والخدمات اللوجستية، والمالية والتمويل المبتكر، وسوق العمل والتشغيل، ليبعث برسائل مهمَّة تدعم إيجابية البرنامج، وتضمن تحقيق أهداف الخطة الخمسية التاسعة، وتصحِّح أوجه القصور في بيئة الاقتصاد، وتساعد في التغلب على العوائق التي تَحُوْل دون تحقيق أهداف التنويع، وتعزِّز فرصَ النمو الاقتصادي، عبر حوار مُجتمعي رفيع وموضوعي يحقِّق قدرًا أكبر من التفاعل والالتقاء بين مُختلف الأطراف المعنية. النقطة المثيرة للاهتمام مع اختتام أعمال ثالث مراحل "تنفيذ" تتمحور -في رأيي- حول ما أُعلن عنه من أنَّه وفي حال تنفيذ المشاريع والمبادرات -التي سيبدأ تطبيقها مطلع العام المقبل- فإنها ستكون قادرة على توليد إنفاق رأسمالي بقيمة 16.3 مليار ريال عماني، وهذا "أمرٌ طيب" للغاية وهو المأمول أصلا من البرنامج؛ إلا أنَّ تفصيله بعد ذلك يستوجب قراءة معمَّقة أكْثَر منها عابرة؛ ألا وهي: "يُسهم القطاع الخاص بـ86% من تنفيذها"؛ مما يفتح باباً أوسع أمام حديث مُتجدِّد حول إمكانية قطاعنا الخاص -وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة- من الوفاء بتلك النسبة الكبيرة فعلاً؛ إذ وكما علَّمتنا التجارب، فإنَّ التوجُّهات وحدها لا تكفي، وحُسن النوايا لا يصنع واقعًا مزدهرًا، الأمر الذي يتطلب ثمَّة اشتراطات موضوعية لكي يحقِّق القطاع الخاص تلك النقلة النوعية المنتظرة، كما أنَّ الحكومة من جانبها يُرتجى أن تكون لديها رؤية واضحة لدور هذا القطاع المتأثِّر بتبعات "أزمة النفط"؛ وفق خطط منهجية ترسم خارطة الطريق وتحدِّد الإطار العام والمسار الذي ينبغي انتهاجه لتحقيق الأهداف المرسومة.

فاليوم يُمكننا القول صراحة بأنه ورغم الجهود التي بُذلت خلال ما يقارب الخمسة عقود لتمكين القطاع الخاص، وما تحقَّق من إنجاز، إلا أنَّ هناك مزيدًا من العمل المطلوب لتحفيز هذا القطاع الحيوي ليقود خُطى التنمية صَوْب آفاق المستقبل المشرق، وهذا لن يتأتى إلا بإيجاد بيئة مُحفِّزة وصحية تضمن نموَّ هذا القطاع ليقوم بدوره كاملاً، ويكون قادرًا على المبادرة في رفد الحراك الاقتصادي وتدعيم كفاءته في تقديم الخدمات الإنمائية؛ من خلال تعميق "الشراكة" على أرض الواقع، وإيلاء أهمية خاصة لتوزيع الأدوار والمسؤوليات بين القطاعين العام والخاص بشكل واضح، ولا بد كذلك من إحكام كل مُعاملة للقطاع الخاص لدى الجهات الحكومية المختصة إلى عامل "الارتباط الزمني" مُحدَّد المدة وهي إحدى أبرز الإشكاليات التي تتعاظم تأثيراتها السلبية يومًا بعد آخر، وإذا ما أخذنا على سبيل المثال نموذج "إباحات البناء" وغيرها من تراخيص مطلوبة، تطول لأشهر وأشهر في كواليس اتخاذ القرار أو تبقى طيَّ "الأدراج المغلقة"، سنُدرك حقيقة حجم التحديات التي تعترض الطريق. وهي دعوة لا تقتصر بالمناسبة على المجال الاقتصادي فحسب، بل تشمل كافة المعاملات الحكومية.

... إنَّ المرحلة المقبلة يُمكن تعريفها بمرحلة "تضافر الجهود" بين مُختلف مُكونات المجتمع -الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني والمواطن- وبناء الثقة من جديد بين جميع الشركاء، وتعميق الوعي بأهمية الشراكة المجتمعية؛ لإيجاد التكامل والانسجام والعمل من أجل هدف واحد لضمان نجاح أكبر. فكما أنَّ الحكومة مُطالبة ببعث رسائل إيجابية للقطاع الخاص وإبداء رغبة أكبر في الشراكة الحقيقية، وتذليل العقبات المستمرة أمام رجال الأعمال والمستثمرين، وتسهيل الإجراءات في مُختلف الدوائر الحكومية المثقلة بضعف الإنتاجية وثقافة التواكل والتسويف، فإنَّ القطاع الخاص هو الآخر مُطالب بالمبادرة واستيعاب الصورة الكبيرة لنجاح "تنفيذ"، وما يوفره من فرص استثمارية لتطوير الاقتصاد الوطني، وتحقيق نقلة نوعية على المدى البعيد.

كما أنَّ الفرصة الآن مُواتية -وأكثر من أي وقت مضى- لحديث أوسع وبشكل جدي وفاعل عن ضرورة تطوير سوق العمل وبرامج التعليم والتأهيل، وأيضاً مراجعة نسب التعمين، خصوصا وأنَّ لدينا شركات تتعثَّر أهدافها على تلك "الصخرة الجامدة"؛ صحيح أنَّ المنطق يقول بأن الأولوية للمواطن في استكمال منظومة البناء، إلا أنَّ ضعف الخبرة لدى البعض، والسلبية والتراخي في الاضطلاع بالمسؤوليات الموكولة لدى البعض الآخر قد تكون حجر عثرة حقيقي في سبيل نجاح هذه المؤسسة أو تلك، خصوصا وأنَّه يضع رب العمل أمام تحدِّييْن: إما أن يدفع راتباً لموظف لا يستفيد منه بالشكل الأمثل، أو يضطر لإقالته وحينها يدخل في صدام مع "القوى العاملة"، مما يستتبع الحديث عن مقترح منح صاحب العمل حق "الإقالة" -وفق ضَوَابط بالطبع، ومع الأخذ بعين الاعتبار "تأمين التسريح المؤقت" الذي يضْمَن توفير 3 أشهر للموظف المُقَال- بما يُنعش سوق التوظيف، ويمنح القطاع الخاص فرصة الاختيار وتوظيف عُمانيين أكثر كفاءة، في منظومة تضامنية وتنافسية في نفس الوقت.

ويبقى أنْ نشير إلى أهمية تعميق المفهوم الحقيقي لسوق مسقط للأوراق المالية، أو بشكل آخر تفعيله؛ كونه أحد أهم الأوعية الاستثمارية، وطرح مجموعة من المبادرات للاكتتاب العام، وإنشاء شركات مُساهمة عامة جديدة في القطاعات الواعدة؛ بما يعزِّز الجهود الحالية، خصوصاً إذا ما أضيف إلى ذلك أهمية توسيع دائرة الدور التمويلي لبنك التنمية العُماني، وزيادة رأسماله ليواكب الحدث.. كلُّ ذلك سيزيد بلا شك حجم الآمال المعقودة على مخرجات "تنفيذ"، وسيعزِّز دور القطاع الخاص، ويدعم خطواته نحو مزيد من البناء والتنمية.

إنَّ مرحلة تضافر الجهود تتطلَّب منا جميعًا العملَ ضمن رؤية واحدة؛ كوننا جميعاً شُركاء في بناء الوطن، وتقع المسؤولية على عاتق الجميع -كلٍّ في مجاله ونطاقه الحيوي- في إيجاد ثقافة عمل جديدة تقوم على الإنتاجية والجدية وتحمُّل المسؤولية والمبادرة، وتمكين الشباب، والتقييم المستمر والنقد البناء من أجل عُمان التي نريد.