عبيدلي العبيدلي
منذ أن أعلن الرئيس المصري تعويم سعر الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية، تكاثرت الاجتهادات الباحثة عن جذور أزمات الاقتصاد المصري، الذي لم يكن التعويم سوى إشهار علني واعتراف رسمي بها. يؤكد ذلك تقرير (نشره موقع روسيا اليوم الإلكتروني) صادر عن وزارة المالية المصرية، يقدر "عدد من هم تحت خط الفقر في عام 2016 بنحو21.7 مليون مصري، ملامح الصورة في البلاد".
ويضيف التقرير محذرًا من احتمالات تفاقم الأزمة كونها "تأتي في ظل تحولات هائلة يمر بها الاقتصاد المصري، خاصة منذ تحرير سعر الصرف، أو ما أطلق عليه (تعويم الجنيه) في الثالث من نوفمبر المنصرم، وما أعقب هذه الخطوة من ارتفاعات هائلة في الأسعار، ألقت بالمزيد من الأعباء على الطبقات الفقيرة، ووجهت ضربة قاصمة إلى الطبقة الوسطى، حيث وجدت هذه الشريحة نفسها في مرمى الإجراءات الاقتصادية الأخيرة، وتتحمل مع المجتمع المصري فاتورة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وشروطه الجائرة، مقابل حصول مصر على قرض بـ 12 مليار دولار تسلم على ثلاث دفعات".
على نحو مواز يتوقع البعض من أمثال "تاي ماكورميك" أنّ هذا التردي الاقتصادي المصري قدر أزلي، فنجده في مقاله الذي كتبه في مجلة "فورين بوليسي"، وأعاد موقع صحيفة الوطن السعودية نشر ترجمة له تحت عنوان "أزمة الاقتصاد المصري"، "أن كفاح مصر في مرحلة ما بعد الثورة لا يدور حول لعبة عالية المخاطر من الصراع على السلطة أكثر من كونه سباقاً اقتصادياً لا توجد نهاية واضحة له".
ويربط ماكورميك بين الأزمة الاقتصادية المصرية المتفاقمة وتداعي الأوضاع السياسية هناك، حين يؤكد أنه "حتى إذا كان هناك اتفاق واسع النطاق على أن إعادة هيكلة الدعم تمثل حاجة اقتصادية ماسة فذلك لن يأتي دون تداعيات سياسية خطيرة".
لكن ما يفوق التداعيات السياسية خطورة، هو تفاقم المشكلات الاجتماعية، حيث تشير التقارير الموثوقة "أنه منذ ثورة 25 يناير شهدت نسبة الفقر قفزة هائلة؛ حيث ارتفعت إلى 25.2% خلال 2010/2011، ثم إلى 26.3% في العام 2012/2013 بزيادة قدرها 22% في نسبة الفقر عما كانت عليه عام 2008/2009، وهو ما يعني وجود نحو 21.7 مليون مواطن غير قادرين على الحصول على احتياجاتهم الأساسية الغذائية وغير الغذائية".
من جانب آخر، وفي سياق تشخيص الأزمة الاجتماعية الناجمة عن الأزمة الاقتصادية، كشف تقرير التنمية البشرية، الذي أصدرته وزارة المالية للعام 2016، "أن خط الفقر الغذائي المدقع، الذي يمثل كلفة البقاء على قيد الحياة، يقدر بنحو 2570 جنيهًا مصريا في عام 2013/2012، ويعدُّ الشخص فقيرًا فقرًا مدقعًا على المستوى الغذائي إذا قل إنفاقه عن ذلك الخط."
وذهبت تقارير اقتصادية أخرى إلى القول "أنه (إذا كانت) سلة الغذاء لشخص واحد فقط تقدر بنحو خمسة آلاف جنيه في السنة، فإن هذا الرقم بات من المؤكد زيادته بعد تحرير سعر الصرف، والزيادات الهائلة في الأسعار".
وبخلاف ما يروج له بعض مؤسسات البحث الاقتصادية الدولية، فيرجعون سبب الأزمة إلى "جملة من العوامل، منها تراجع مداخيل البلاد من السياحة، ومن تحويلات أبنائها في الخارج، وعزوف كثير من شركات النقل البحري عن العبور من قناة السويس المصرية، مفضّلة طول الطريق عبر رأس الرجاء الصالح جنوبَ القارة الأفريقية على تكاليف التأمين المرتفعة بسبب الوضع الأمني المتدهور في محيط قناة السويس"، "يرى الكاتب أشرف دوابه أنّ لب المشكلة ينبع من الفساد المستشري في مؤسسات الحكم، فنجده يصر على أنّ "المشكلة الاقتصادية في مصر (التي) فاقت كل تصور لا ترجع إلى ندرة الموارد وإنّما ترجع في حقيقتها إلى نهب الموارد نتيجة لحاجات منحرفة لفئة ضئيلة محدودة أبت إلا الجشع والطمع والتعدي على المال العام والسرقة والنهب المنظم من خلال زواج الثروة بالسلطة، وتكوين جبال من المال الحرام بلا قيود والغنى الفاحش والتبذير والترف والسفه بلا حدود، في الوقت نفسه الذي لا يجد نحو نصف الشعب المصري قوت يومه ويعيشون في بحر من الحرمان والفقر والقهر على أقل من دولارين يوميا. وقد فاحت رائحة الفساد في مصر حتى زكمت منه الأنوف وراجت سيرة المفسدين وما اقترفوه من سرقات علنية وخفية، وأصبح الفساد سياسة مهيمنة منظمة ممنهجة حتى تحولت مصر من فساد في الإدارة إلى إدارة الفساد".
هذا الواقع المفرط في فساده، يعريه وزير الشؤون القانونية والبرلمانية المصري السابق محمد محسوب، في شهر سبتمبر 2016، في مقابلة مع محطة فضائية عربية، حين يشير إلى "أنه لم تكن في الدولة المصرية (خلال الخمسين سنة الماضي في أقصر تقدير) آليات لمكافحة الفساد في الدولة، وإنما كانت هناك أجهزة لكشف الفساد مثل الجهاز المركزي للمحاسبات وجهاز الرقابة الإدارية واللذين جرى تقييدهما.. بحيث يكشفان فقط عن قضايا الفساد التي تريد السلطة كشفها لإرضاء الرأي العام".
وكان رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات صرح "بأنّ حجم الفساد بلغ 600 مليار جنيه في العام 2015". ولا تقتصر خطورة الفساد على حجمه المالي فحسب، بل تتجاوز ذلك كي تشمل مؤسسات المجتمع كافة، إذ تشير تقارير مصرية أن "ظهور الفساد لا يقتصر على القطاع العام بل هو قد يكون أكثر ظهورا في القطاع الخاص وفي مؤسسات المجتمع المدني. والفساد في القطاع العام لا يظهر في مفاصل السلطة التنفيذية والسلطة القضائية فقط، بل يمكن إن يظهر في ميدان عمل السلطة التشريعية من خلال تجميد المشاريع لأغراض المساومة".
تقف مصر اليوم أمام مفترق طريق الأول منهما يقودها نحو المزيد من الأزمات، والثاني يفتح لها باب الخلاص، والخطوة الأولى على الطريق الصحيحة تبدأ بمحاربة الفساد، لا تمويهه.