د. سيف المعمري
نوفمبر شهر له أهميته في تاريخ عمان المعاصرة لأنه شهر تتحرك فيه الروح الوطنية بشكل هستيري لا يمكن أن يتنبأ به أحد، لأن داخل قلوب العمانيين محبة لا يمكن أن يدركها أحد لسلطانهم الذي خرج ذات ظهيرة من عام 1970م وكان شابا ليقود عملية تغيير كبيرة من أجلهم ومن أجل عمان التي كانت تمر بأسوأ فترات تاريخها بسبب عاملين هما الصراع والانقسام.
وخلال تلك الفترة ترك العمانيون بلدهم لأول مرة مجبرين لا مختارين باحثين عن الحياة بأي ثمن بخس، وفي أي مكان، تركوها ودفنوا آمالهم في الصحراء التي قطعوها مشيا على الأقدام، أو رموها في مياه الخليج من على القارب الآيل للغرق مع وصولهم إلى الشواطئ التي حسبوها آمنة رموها احتفالا بحياة ليس هي الحياة التي يحياها غيرهم، وابتهاجا بالخروج من سجن اليأس إلى سجن الغربة التي مهما كانت وطأتها أفضل مليون مرة من الحياة على أرض تعزف كل يوم موسيقى الموت.. وترقب الغروب الذي لا تأمل معه فجرا مختلفا عن فجر الأمس، وفي الوقت الذي ظن العمانيون أن بلدهم رهنه الله للموت.. لحكمة لا يعرفها إلا هو، خرج السلطان قابوس من أجل هؤلاء الذين كان يرى معاناتهم، ويسمع عن تشتتهم خرج ليعيد لهم الحياة التي افتقدوها.. خرج ليزرع على أرض عمان أملا جديدا.. تنبت منه دولة جديدة مختلفة عن كل الدول التي قامت في ما مضى، دولة تعمل على استعادة العقود الطويلة التي سرقها الانقسام منها، دولة تستعيد عشرات البشر الذين ماتوا وهم لا يزالون أحياء، دولة تعمل من أجل الإنسان لأنه هو الأمل الذي يأتي بالأمل، هو المعول المخلص الذي يبني ولا يهدم، جاء السلطان بهمة أذهلت كل الذين فقدوا الأمل في أن يستعيد العمانيون بلدهم مرة أخرى، جاء وهو يدرك أنّ إعادة بناء بلد منقسم على نفسه يتطلب الترغيب لا الترهيب، والاقتراب لا الإبعاد، والعطاء لا المنع، وأهم من ذلك كله التفاني في خدمة الشعب الذين كما كان يقول لهم في الخطاب الذي وجهه إلى الوزراء والمسؤولين في الحكومة في 15 مايو 1978 بأنهم مصدر الثقة التي يجب أن تحافظ عليها الحكومة.
إن هذا الخطاب كان استثنائيا في تاريخ النهضة العمانية، بل هو وثيقة مهمة للتأريخ لمسيرة المواطنة في عمان، وشكل الدولة التي كان يريدها جلالته، ولذا علينا أن نعيد قراءة هذا الخطاب الوطني، ونحن نحتفل بالعيد الوطني والدولة التي أسسها صاحب الجلالة وتتطلب العمل بمضامين هذا الخطاب لأنّ الدولة لا يمكنها أن تقوى وتتغلب على التحديات التي تواجهها اليوم إلا بالأخذ بموجهات المواطنة التي جاءت في هذه الوثيقة والتي تركز على عدة نقاط لها أهميتها في الفكر السياسي المعاصر؛ وأولها أنّ الشعب يمثل الإرادة العامة للحكومة: ".. جمعناكم اليوم من وزراء ووكلاء ومدراء لنوجه إليكم النصح والإرشاد فيما يجب عليكم القيام به لأداء رسالتكم في خدمة هذا الوطن الغالي، بالطريقة التي ترضي الله ورسوله وتراضينا وترضي المواطنين الذين أولونا ثقتهم"، وبالتالي طالما أنّ الشعب هو مصدر هذه الثقة فإنّ الحكومة يجب أن تتفانى في العمل من أجله، وأي نقد يوجه المواطنين للحكومة هو من باب حراسة الحكومة حتى لا تحيد عن الثقة أو تفقدها إن هي كما عبر جلالته قصرت في خدمة المواطنين.
النقطة الأخرى المهمة في هذا الخطاب وذات الصلة بتأسيس مواطنة سليمة تكفل الاستقرار، وتحقيق الأمن والطمأنينة وبث روح التقدم والعمل هي تلك التي أشار إليها صاحب الجلالة صراحة وبدون دبلوماسية ولا مواربة متفقا فيها مع المفكر السياسي البريطاني برتراند رسل في كتابه السلطة والفردوس وهي أنّ الحكومة وسيلة وليست غاية: "وهناك أمر هام يجب على جميع المسؤولين في حكومتنا أن يجعلوه نصب أعينهم، وألا وهو أنهم جميعا خدم لشعب هذا الوطن العزيز، وعليهم أن يؤدوا هذه الخدمة بكل إخلاص وأن يتجردوا من جميع الأنانيات وأن تكون مصلحة الأمة قبل أي مصلحة شخصية"، وبالتالي حين تبقى الحكومة وسيلة في خدمة الشعب تتحق التنمية وينمو البلد أمّا حين تتحول إلى غاية يجب أن يعمل الشعب على عدم إزعاجها بالمطالبة بالتطوير وإنجاز غايات التنمية هنا تظهر الإشكاليات التي تتفاقم أحيانا، وتضيق من قدرة المجتمع على النهوض، ولذا كان جلالته مدركا لمخاطر مثل هذه التحولات وحذّر منها بشدة؛ حتى تحافظ الدولة على هيبتها.
أمّا النقطة الثالثة التي تستدعي الانتباه في هذا الخطاب ولها ارتباط جوهري بالموازنة فهي المحاسبة لذوي السلطة العامة؛ فبدون محاسبة لا يمكن أن يكون هناك التزام بالثقة الوطنية، ولذا قال جلالته بصوت عال إنّ بقاء الدولة هو رهن بمحاسبة ذوي السلطة، وأنّه خير للدولة التضحية بمن يعيقون نهضتها من التضحية بإنجازات النهضة من أجلهم: ".. إننا لن نقبل العذر ممن يتهاون في أداء واجبه المطلوب منه في خدمة هذا الوطن ومواطنيه، بل سينال جزاء تهاونه بالطريقة التي نراها مناسبة..".
أمّا النقطة الرابعة فهي مرتبطة بتمكين الجدارة والاستحقاق لا تشجيع التهاون والمحسوبية والتراخي؛ لأن جلالته يدرك جيدا كيف تبنى الأوطان وما نوعية الكفاءات التي يمكن أن تنجز ذلك البناء ولذلك أطلق صيحته التي لابد أن نظل نرددها جميعا كعمانيين حفاظًا على هذه الدولة التي صنعها في لحظة الاستحالة وبناها في لحظة اليأس لدى الجميع، قال: ".. فلن يكون في مجتمعنا مكان لمنحرف أو متقاعس عن أداء واجبه أو معطل لأدائه، كما يكون لكل مجتهد نصيب في المكافأة والتقدير والعرفان بالجميل.. وعلى المسؤول أن يعتبر مصلحة الدولة فوق كل مصلحة، وأن ينتقي الأصلح فالأصلح، لا القريب.. فكل الأفراد العمانيين هم إخوة وأبناء، ونحن لا نحب أن نسمع أنّ هناك توظيفا أو تقريبا أو تمييزا على أسس غير الكافية واللياقة والإخلاص، عليكم جميعا أن تجعلوا نصب أعينكم دوما مصلحة عمان وشعب عمان".
إذن مصلحة عمان وشعب عمان هي الهدف فوق كل هدف وهي الغاية لكل حكومة وهي رسالة المواطنة التي رسخها جلالة السلطان في هذا الخطاب الاستثنائي الذي لا يمكن لأي مختص في المواطنة تجاهله.. ونحن نحتفل بالعيد الوطني نسترجع هذه المضامين التي نحتاجها اليوم لحراسة الدولة من أي نزعات تكون بعيدة عن تحقيق المصلحة العامة.. حفظ الله عمان وسلطانها، وأدام الفرح في أرجائها.