في إيوان السلطان

 

سلطان الخروصي

ستٌ وأربعون ربيعا قد انقضت ومجان ترشف رحيق المجد، وسمو التنمية المستدامة الخالدة بالحب والوئام بسواعد الشعب وعدالة الحاكم، هي ملحمة مشرِّفة يشدوا بربابتها التاريخ ليسمع أثيرها جموع الأُمم والشعوب، فيرشفون من معين جنائنها أُرجوزة المدنّية والتحضر، ليضيء شمعدان "عُمان" نغم تتطيّب به ألسنة الحرية والعقول المستنيرة، فتغرِّد بعُذريته الطفولة، وتصدح بفخره حناجر الشبيبة، وتستنير بخبرات السنين وسواعد الآباء والأجداد الذين عمروا الحياة خير عمارة واعدة.

تروي أرجوزة التاريخ حقبا من العهد النهضوي الزاخر الذي عضَّت بنواجذه مفاصل المواطنة والانتماء، في وقت يلتهم العالم بعضه بعضا لحسابات مقيتة سمجة؛ فهناك من يقسم الدنيا ولا يُقعدها بهُلامية وطنيته وإنجازاته الفاخرة؛ لتكون بعد حين قُربانا لمقاصد حزبية أو قومية أو قبلية أو مذهبية كما هو واقعنا العربي الآن.

إنّ المتتبع لسيرورة الزمن العُماني في عهد السُلطان قابوس يلحظُ أنها تمضي قُدما نحو خلق بيئة المؤسسات العصرية القائمة على الثروة البشرية الحقيقية، حيث أساس الازدهار الحضاري في مختلف مجالات دولة القانون؛ إذ استطاع السلطان قابوس إخراج قطر الجنوب الشرقي للجزيرة العربية من ضبابية الوجود والعُزلة النمطية التي يعيشها الوطن العربي لتكون شريكا في التفاعلات الإقليمية والعالمية، قوامُها التبصُّرِ والحكمة والثوابت الإنسانية النبيلة الداعية لتقديس كرامة الانسان.

وفي ظل متغيرات وتطورات غير مسبوقة محليا وإقليميا ودوليا، انبرى السلطان قابوس على منصَّة القيادة، فكان خطابه السامي يشي بما تشعر به نفسه ونفس العمانيين تجاه الموقف العربي.

وحينما انشغلت القيادات العربية بلملمة شتات أحزابها السياسية والفكرية والأيديولوجية ولم تُمدُّ للسلطان قابوس يد العون إلا من بهلوي شاه إيران، تعهد بأن يحرّر كل شبرٍ من هذا الوطن باسم عُمان دون غيرها من الكنتونات الحزبية والمذهبية والقبلية، كما تعهَّد بأن يرفل كل عماني بالعيش الهانئ الرغيد، فاستطاع أن يوحِّد الصف ويلم الشمل في (11/ ديسمبر/1975م) بعد دحر جماعات التمرد، مُعلناً العفو والصفح عمَّن أجرم في حق الوطن والمواطن مُتوشِّحاً في ذلك فعل النبي الكريم حينما فتح مكة فقال لأهله: "اذهبوا فأنتم الطُلقاء"، فلم يكن جَسُوراً على الضُعفاء، ولا مُتعجرِفاً على المهزوم، ولا سيفاً مُسلَّطا على من أعمتهُ قبليَّته أو تزمَّت بالدِّين والمذهب والفكر؛ ليُخلّد التاريخ تلك الملحمة التي دفعت جموع العمانيين للوقوف خلفه وشعارهم "ماضون خلفك لا شِقاق ولا فِتن"، كما صافحت يداه الصين، والسوفييت، ومصر، والعراق، وسوريا.

وانتهج السُلطان قابوس سياسته الخارجية مع كثير من مجريات الأحداث المُلتهبة، ففي المشهد الإيراني نجد أن الفكر المستنير لقائد النهضة المباركة يستوحي مبدأ الحوار والجوار بمسؤولية حضارية وتاريخية عميقة، قوامُها المصالح المُتبادلة سياسياً، واقتصادياً، وثقافياً؛ فكانت السلطنة تقف موقف الحياد في الكثير من الأزمات التي تكون فيها إيران طرفاً مباشراً مع دول الجوار أو مع تطورات المشهد العربي. فبعد المأساة التي عصفت بالعلاقات العربية – الإيرانية إثر حرب الاستنزاف بين العراق وإيران على مدى ثماني سنوات عجاف (1980-1988م) نجد أن الموقف العماني كان يتوخَّى الحذر لينزوي بعيداً عن التصعيد أو الاحتكام للرصاص والمدافع بل كان يدعو إلى تغليب الحكمة والعقل والاحتكام للروح الإنسانية النبيلة، أضف إلى ذلك أنها القُطر الوحيد في المنظومة الخليجية التي تتمتع بعلاقات وطيدة مع إيران باسم الإنسانية وحسن الجوار، متناسية في ذلك شبح المذهبية المقيتة التي يتعاظم أثرها المخيف في نفوس كثير من الأنظمة الخليجية والعربية، فنأت بنفسها عن أن تكون مياهاً راكدة تقطع حلقة الوصل بين الخليج العربي والبوابة الشمالية له بفضل القيادة الحكيمة والحنكة السياسية النبيلة؛ فكانت محل ثقة الإيرانيين في التعامل مع كثير من المواقف الخليجية والعربية والعالمية.

ولا أدلَّ على ذلك أن عُمان شكّلت على مدى السنوات العشر الأخيرة جسر التلاحم والتواصل بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في وقت كان الكل يرى فيه استحالة أن تكون هناك أي بوادر للقاء من هذا النوع لتتوج تلك اللقاءات بتوقيع اتفاقية نووية بين إيران والدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية في 2015. وعلى الرغم مما تتمتع به السلطنة من تنوع مذهبي إلا أنّها استطاعت أن تُشكل لحمة من الانسجام في دول المنطقة لتكون باكورة فريدة من نوعها في وقت تشهد فيه المنطقة غليانا مذهبيا مخيفا، كما أنّ المشهد اليمني والحِراك الدبلوماسي المحموم بين مسقط وأطراف النزاع واللاعبين الفاعلين في الساحة لهو خير دليل على الثقة الدولية للقيادة العمانية.

وبالولوج إلى الداخل العُماني نجد أنّ التعامل مع كثير من الأفكار والمواقف والأزمات قد اتسم بالحكمة والمسؤولية الوطنية الرائدة في كثير من الأحداث التي توالت على البلاد طوال أربعة عقود. فكان التعامل المسؤول من قبل القيادة الحكيمة فريدا من نوعه ومتميزا؛ اتسم بالتعامل مع الموقف من خلال تبيان الحقيقة وتبصِير من غُرّر بهم بضرورة التوبة والعضِّ بالنواجذِ على مُقدّرات الوطن والإيمان بقُدسيته، كما أنّ الكثير من الاعتصامات والاضرابات التي توالت على الساحة العمانية والتي كانت تنادي جهاراً نهاراً بالإصلاحات التعليمية، والاقتصادية، ومحاربة الفساد، والترهل المؤسساتي لاقت آذاناً صاغية من قبل القيادة الحكيمة؛ انطلاقا من القناعة التامة بأنّ أربعة عقود من البناء والتطوير الإنساني كفيلة بخلق جيلٍ واعٍ يقرأ الأحداث بمسؤولية وتبصُّر في سبيل رفع راية عُمان خفَّاقة بين عوالم العظماء.

فحقَّ للسلطان قابوس أن يفخر بوطنه وشعبه، وحقَّ للعمانيين أن يرشفوا من كأس الخلود الحضاري لباني المسيرة الظافرة، وحقَّ لنا أن نُجلجِل أقدامنا وأيدينا تصفيقاً وتعظيما للقائد الوالد، وحقَّ للجميع أن يُقلِّدوا التاريخ وساماً خالداً ويُطربوا العالم بسيمفونيّتهم الهادئة الصامتة ويُغنُّوا أوركسترا التضحية والفداء الحقيقي بعيداً عن الهُلامية والمتاجرة بالوطنية واستباحة دماء العباد والبلاد.

sultankamis@gmail.com