فتوح العارفين

 

 

عائشة البلوشيَّة

هي عادة جبلت نفسي عليها أنْ أكون باحثة عن الجمال حولي في كل شيء، وأن أتخذه سبيلا للوصول إلى رضا خالقي؛ لذلك أصبحت البحوث والدراسات المتعلقة بهذا الجانب تشدني، وتجعلني أتوقف عندها متأملة منهج الدراسة والنتائج، خصوصا الحديثة منها؛ فعالمنا الحديث مليء بالمتغيرات الكثيرة، والتي أصبحت تدهشنا بتسارعها الضوئي الحساب.

وصلني موضوع حول دراسة نظمتها صحيفة "واشنطن بوست" لتقييم: "هل ندرك الجمال في جو غير مناسب وفي ساعة غير مناسبة؟ وهل نتعرف على الموهبة ونقدِّرها في سياق غير متوقع؟" ، فطفقت أقرؤها بنهم شديد، حيث تقول الدراسة إنه وفي صباح بارد وقف رجلٌ في إحدى محطات المترو بواشنطن  وبدأ يعزف الكمان، بعد مرور ثلاث دقائق لاحظ رجلٌ أن هناك ثمة من يعزف، فتباطأ في سيره وتوقف لبضع ثوان ثم واصل سيره مجددا، بعد دقيقة أخرى تلقّی العازف الدولار الأول، امرأةٌ ألقت له المال بدون أن تتوقف، شخصٌ آخر استند إلى الجدار للاستماع إليه لبضع دقائق، ثم نظر إلی ساعته وعاود المشي، أمّا الذي أبدى أكبر قدر من الاهتمام فكان طفلاً عمره ثلاث سنوات، كانت والدته تحثه علی السير لكنه توقف لإلقاء نظرة على عازف الكمان ثم واصل المشي مُدِيرًا رأسه، وكرَّر فعل هذا الأمر أطفالٌ آخرون؛ خلال خمس وأربعين دقيقة من الموسيقى، ولأنها ساعة الذروة مر حوالي 1100 شخص من تلك المحطة، معظمهم في طريقهم إلى العمل، لم يتوقف ويبقَ لمدة من الوقت سوى ستة أشخاص، قدَّم عشرون منهم المال له، وواصلوا السير فجمع 32 دولاراً، عندما أنهى العزف وران الصمت، لم يلاحظ ذلك أحد، ولم يحظ بتصفيق أي أحد، لا أحد كان يعلم أن عازف الكمان هذا هو "جوشو بيل" أحد أهم الموسيقيين في العالم، وأنه عزف قطعة موسيقية هي الأكثر تعقيدًا، ولا أحد كان يعلم بأنه يعزف علی كمان قيمته 3.5 مليون دولار، وأنه قبل يومين من عزفه في مترو الأنفاق، بيعت بطاقة الدخول لحفلته في أحد المسارح في بوسطن بمتوسط 100 دولار؛ وكان خلاصة نتائج الدراسة أنّه "كم من الأشياء الإبداعيّة حولنا تفوتنا ونحن لا ندري؟"، كما أنَّ الملاحظ أن الأطفال كانوا الأكثر التفاتا له من البالغين، إن قلوب الأطفال لم تتدنس بالدنيا، فهي مضغات بكر، مغلفة بالبراءة، لذلك نجدها تنتبه لمكمن الجمال الحقيقي فيما حولها، وتستمع به، لذلك يأتي تعبيرها بريئا وعفويا على هيئة ضحكة نابعة من القلب، لذلك كان الانتباه من الأطفال في الدراسة المذكورة لجمال العزف أعلى بكثير عن الكبار؛ فالكبار مشغولون بالسعي وتوفير المادة ومشاكل العيش.

ﻷضرب مثلا بسيطا جدا بـ"سمرة" (مفرد شجر السمر) تقف وحيدة على أحد طرقنا الممتدة من شمال سلطنتنا الحبيبة إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها؛ حيث تعوَّدنا أن نرى هذا النوع من الشجر وأن لا يناله منا أي التفاتة أو استحسان، بل إننا ربطناه بالصحراء والحر الشديد، ولكننا لو تعمقنا في هذه السمرة ودققنا النظر في تلك الصفرة التي تغلفها، لعرفنا أنه وقت ازهارها بزهور "البرم" طيبة الرائحة، وهب أننا دققنا النظر اكثر، لشاهدنا أسرابا من نحل "أبو طويق" حول أغصانها مستجديا ذلك الرحيق الساحر، ليخرج لجانيه عسلا خيالي المذاق، رائع السعر عند بيعه، لقد استجلبت هذا المثال البسيط من بيئتنا التي تناسيناها، ولم نلمس دقائق جمالياتها الكثيرة جدًّا، وأن اعتيادنا على منظر ما أو أمر معين يفقدنا تلك الحماسة الروحانية للاستمتاع به عند النظر إليه أو التعامل معه، وهذا طبيعي بسبب فطرتنا البشرية، ولكننا نستطيع أن ندرِّب أرواحنا على النظر للجمال من زوايا مختلفة؛ فالطيف الذي أبصره اليوم، أبحث عن طيف جديد غدا وهكذا، حتى أجد بأن كل ما يحيط بذلك الشيء/الامر/الشخص يتسم بجمال يكاد يكون مغموسا فيه؛ والحال تنطبق على هنات الدنيا، كفقد حبيب، أو خسارة مال، أو عدم الحصول على منصب أو غيرها من الأمثلة الكثيرة جدا في يومنا هذا، نحزن ونبكي ونطرح السؤال تلو الآخر: لماذا حدث لي هذا؟ ولماذا أنا الذي مات ولدي وهو في مقتبل العمر؟ ولماذا لم تصل عاملة المنزل التي ننتظرها من عدة اشهر؟ ولماذا لم توافق تلك الفتاة على ارتباطها بي؟ وننسى أن نسأل أنفسنا سؤالا واحدا: تُرى ما هو الخير الذي اختَصَصْتَنِي به يا رب حتى تحجب ذلك الشيء عني؟!! ولو أننا أدركنا هذه الزاوية بالذات لعرفنا أن جمال ما يختاره الله لنا لا حدود لروعة أطيافه وانعكاس ألوانه على حياتنا، ولوصلنا إلى درجة من التسامح الذاتي تجعلنا مقبلين على العطاء في أعمالنا وجامعاتنا ومدارسنا؛ ﻷنَّ المادة في نظرنا ستغدو مجرد وسيلة نستخدمها، وليست هدفا يستخدمنا ويستعبدنا، ونقتتل مع أنفسنا وبين بعضنا للوصول إليه.

بالفعل، كم من الجمال يتناثر حولنا ونحن لا نعيره أدنى التفاته!! وكم من المواهب التي نملكها ولكننا شغلنا أنفسنا بالدنيا ولم نستمتع بها!! إنَّ الجمالَ موجود في كل شيء خلقه الله تعالى؛ فهو تبارك وتعالى وضع مسحة من جمال خفي أو ظاهر في كل مخلوقاته، وطلب منا أن نستبصر تلك المسحة ونبحث عنها، كي نعيش ونحن في سلام ذاتي مع أنفسنا أولا، وبالتبعية سينتقل هذا الشعور نحو الغير، والذي بدوره يعزز من اليقين في دواخلنا لندخل ضمن فلك "الموقنين"، كما جاء في الآية الكريمة رقم 20 من سورة الذاريات؛ قال تعالى: "وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ"، والعجيب أننا في عصر ليس هنالك شيء أسهل فيه من الوصول إلى المعلومة أو المعرفة، فقد أصبحت المعارف وأمَّات الكتب رَهْن أيدينا، وبلمسة بسيطة على شاشة جهاز هاتفنا الذكي.

... إنَّ المستمتع بجمال الحرف والكلمة والجملة والفقرة والصفحة والكتاب في أبجديات هذه الحياة، هو الذي يجد حلاوة القرب من الله؛ فتجده مُتصالِحًا مع أي شيء وكل شيء، يعيش في سلام ومن أجل السلام؛ ﻷنه طَرَق الأبواب باحثا عن مكامن الجمال؛ ففتح الله على قلبه منابع الحكمة.. فاللهم ارزقنا فتوح العارفين!

-------------------------------

توقيع: "سُئل أحد العارفين: هل الطريق إلى الله طويل لأقطعه؟ فأجاب: بل هو حِجابٌ عن قلبك ترفعه".