أنشودة طفل ميت

 

 

 

أحمد الهنائي

يرجع إلى سريره مُتخاذلًا منكسرًا، ليرحل بفكره إلى مستقبله المجهول، لكنه لم يطق التفكير بصمتٍ طويلًا، حتى بدا يشنِّف آذان الليل بأنغامه الشجية؛ فصوته الرنّان ذو الغنّة الندية كان يحرِّك كوامن زملائه في المدرسة وفي كل محفلٍ ونادٍ.

راوده النوم عن نفسه، فلم يستطع إغواءه، فخرج من غرفته على غير هُدى، يعالج في نفسه ألما ممضًّا. أثقل وطء الخطى وهو يقتحم بَهْوَ حديقة المنزل الصغيرة. تهتف رسائل الموت بكل حواسه فيحتدم ويضرب الأرض بقدميه.

أزكم أنفه بروائح الياسمين، فلم تخفف الحدائق برياضها وأزهارها من حدة هواجسه، وللمرة الأولى يُشيح بوجهه عن زهرة مكممة قد تفتق بعض أكمامها، وقد كان من قبلُ يرويها كل يومٍ ويحادثها حديثًا عذبًا حتى تنمو سريعًا، فهو الآن يجول في أقطار النفس باحثا عن مسالكها، ولا يشغله شاغلٌ سوى إصابة كُنْهِ مأرب "الموت" من تغييب روحه، كما أنه لا يرى مسوغًا لشبح الموت كيما يتورط في هذه الفعلة.

ومن القلق الذي يكتنفه، والغموض الذي يفتك به أقلته رجلاه وهو غارقٌ في دوامته إلى سطح المنزل بعدما قطع مفاوز شاسعة من التسآل، فشعر بقربه من النجوم التي ترسل ومضة سحريةٍ، ساعية في مجاراة ضوء القمر الساطع في الدجنة الحالكة، كما لذَّ له أن يرى من عَلٍ كل شيء؛ فرأى قطةً تغزو برميلًا للنفايات تفتش عن بقايا مأكلةٍ تركها بنو البشر لها، ووقع بصره على عمال نظافةٍ يكدحون على تنظيف الطرقات ليلًا، وثمة فتيان يترنحون يمينًا ويسارًا، والسُّكْرُ قد سيطر على كل حركاتهم. فتضاءل الكون الرحب في عينيه وضاق ذرعًا بالحياة الضيقة الأفق،  فعاد إلى سريره يصارع النوم الذي عنه تمنّع، وقد أضمر بين جنبيه لوعة.

هكذا جرت أيامه متشابهة في كل شيء، ولا شيء آخر سوى ترقب الموت المباغت.

هبت الشمس من مرقدها، ومضت تنشر نورها الوهاج في كل مكان، حتى بدأت حبات الطل تتساقط من أوراق الزهر. صوت العصافير المنسجم يعزف مقطوعة أخرى جميلة، غير تلك المقطوعات البائسة التي يعرفها.

قام مُتثاقلًا من نومه ليفرك أسنانه، وحينما تناغمت الفرشاة في حركتها المتسقة مع الأسنان جيئةً وذهابًا، أصدرت نغمةً مزعجة وضجيجًا مقرفًا، فابتسم وهو ينظر لنفسه في المرآة، فخاطب صورته المنعكسة: "ها أنت تقف أمامي كل يوم، لتقوم بإدخال الفرشاة إلى فمك، وتنظف فكك المخبوء، فتجبرني على تقليدك، والقيام بذات الحركات التي تقوم بها، ولا أستطيع إلا الامتثال لك، أبتسم حينما تبتسم، وأعبس حينما تعبس، لكنك لا تشعر بما أشعر به أنا، ولا تكتوي بالنار التي تحرق أضلاعي، ليتني مثلك لا أحمل كل هذه المشاعر والمعاناة، فلقد برَّح بي الهمُّ وأضناني".

ودَّعته جدته المقعدة وهو يهم برفقة والديه إلى المستشفى بابتسامةٍ امتزجت بالعطف والشفقة والأمل: "امضِ إلى سبيلك، واتلُ أنشودة الحمد في كل حين، فغيرك لا يُدرك نعمة الإحساس، ولا تُمعِن التفكير في القادم، فدع الأيام تفعل ما تشاء، وثق بأنَّ للكون ربًّا يقدِّر الأمور ويصرفها كيفماء أحب وشاء".

بعد أيام طويلة، ومعاناةٍ مريرة؛ أغمض الطفل عينه للمرة الأخيرة، بعد أن تمكن "سرطان الدماغ" منه، وهو لم يجاوز الرابعة عشرة من عمره، هذا المرض الذي لم يُبقِ لنا حبيبا ولا قريباً، اغتال كل الأماني، ووأد حلم الطفلة المصابة به، والتي اختصرتْ كل شيءٍ في أمنيتها بـ"أن يُصاب السرطان بسرطانٍ يقتله".

 

Oman1995@hotmail.com