د. سيف المعمري
لو سُئل القائمون على شؤون مُؤسَّسات التعليم العالي في منطقة الخليج بصفة عامة، والسلطنة بصفة خاصة، عمَّا يشغل بالهم اليوم، لأجابوا بصَوْت واحد وبدون تردُّد: "الحصول على الاعتماد الأكاديمي"؛ لأنَّ شهادة الاعتماد هي بمثابة صكوك غفران تمنحها مجالس وهيئات إقليمية أو عالمية تُثبت أنَّ هذه المؤسسة أو تلك تتمتَّع بقوة أكاديمية من خلال ما تدرسه من مضامين لطلابها، أو من خلال النتائج التي يحصلون عليها، أو من خلال وضع أهداف واضحة تؤطر فلسفة عملها تقوم على التقنين وبلاغة التقارير التي تصدر عنها، والتي تكتب بلغة حذرة تضخم من جوانب القوة وتقلل من نقاط الضعف، أي أن الاعتماد في جزء كبير منه هو محاولة لإخفاء العيوب من ناحية، وهو من ناحية أخرى فن الإقناع بما هو ليس مُقنِع، وفن تبرير ما هو عادة لا يتوافق مع ثقافة مجتمع أكاديمي، وأخطر ما في العملية التي تبدو منطلقاتها نبيلة في البداية هو أنها تعبر عن عملية سياسية تبرر فيها غاية الحصول على الاعتماد أية وسائل قد تستخدم من قبل المؤسسات الطامحة للاعتماد؛ لأنَّ هناك العديدَ من الأسئلة التي لابد أن تطرح. ولم تُطرَح بعد؛ وهي: هل هناك حاجة مُلحَّة للحصول على الاعتماد؟ ومن يجب أن يقوم بالترخيص والاعتماد؟ هل هيئة وطنية أم هيئات إقليمية أم عالمية؟ وكيف يُمكن أن تحصل مؤسسات تعليمية على الاعتماد من مؤسسات عالمية، ثم تطالب بالحصول على اعتماد مؤسساتي من هيئة وطنية؟ وماذا لو حصلت مؤسسة تعليمية على اعتماد وطني لبرامجها، لكنها لم تُفلح في الحصول على اعتماد عالمية: هل يعدُّ ذلك كافيا لأن يُعتَرف بها وطنيًّا؟
لقد قرأتُ خلال الأسبوع الماضي مقالًا وتقريرًا لهما أهميتهما في هذا الموضوع؛ الأول كان باللغة الإنجليزية وكان عنوانه من يعتمد المعتمدين (Accreditation of colleges and universities: who,s accrediting th accreditors). أمَّا التقرير، فكان عنوانه "هل يُراقبك الأخ الأكبر؟.. تطور دور الدولة في تنظيم وإدارة ضمان الجودة"، أعدَّه الخبير جميل سالمي لمجلس اعتماد التعليم العالي في يناير 2015م، والمجلس الذي أعد له التقرير هو جمعية مكونة من 3000 كلية وجامعة من التي تمنح شهادات وتعترف بـ60 منظمة اعتماد مؤسسي وبرامجي، وهي تعتبر جمعية ذات الصوت الأقوى والأكثر تأثيرا في مجال الاعتماد، ولقد طرحت في كلا الموضوعين تساؤلات عميقة حول ضرورات الحصول على الاعتماد، سيما في ظل تزايد عدد الجامعات وعدد الملتحقين بها مع ظهور مخاوف جدية من مسألة النوعية التي تقدمها، سيما في ظل التنافس الشديد في مجال البحث العلمي والابتكار وتأثير ذلك في النمو الاقتصادي، وقد أدَّى الحراك العالمي نحو الاعتماد إلى تصفيات لكثير من المؤسسات التعليمية التي ظهر أنها لا تستطيع مواكبة مُتطلَّبات الاعتماد، والأمثلة على ذلك كثيرة، يكفي أن نُشير إلى أنَّ حكومة الإكوادور قد أغلقت في العام 2012 عدد 14 جامعة خاصة من أصل 26 جامعة؛ حيث وضعتها على قائمة المؤسسات الأسوء أداءً، وفي ألبانيا أغلقت 18 جامعة في العام 2014، وفي رومانيا أغلقت 10 جامعات خلال عامي 2013 و2014؛ وبالتالي نحن أمام ثورة عالمية لمواجهة تزوير التعليم العالي، وتهديد اقتصاديات كثير من البلدان النامية بآلاف الخريجين الذين لا يحملون الكفاءة في المشاركة الاقتصادية الفاعلة، ويبدو أن هذه الثورة تختلف حدتها من بلد لآخر، تبعا لعوامل عدة؛ يأتي في مُقدمتها: استقلالية هيئات الاعتماد الأكاديمي بدلا من تبعيتها للحكومة؛ وبالتالي تأثر دورها بكثر من الحسابات المرتبطة بطبيعة نظام التعليم الخاص. وفي الوقت الذي تعصفُ فيه ثورة الاعتماد بكثير من الجامعات، لا تزال هناك جامعات -رغم ما يحيط بأدائها من ملاحظات- تقف شامخة لا شيء يدفعها نحو تحسين ملف جودتها.
لقد صُنِّفت دول العالم إلى أربع فئات فيما يتعلق بتحقيق معايير الجودة والاعتماد، وفيما يتعلق بالصرامة في ضبط التعليم العالي: الفئة الأولى هي أنظمة متقدمة ومتطورة وتمثلها الاقتصاديات الرائدة لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والفئة الثانية أنظمة راسخة تمثلها العديد من الدول الصناعية وهي تركز على ضمان الجودة الخارجي، وفئة ثالثة لا تزال في طور تدعيم نظام الجودة وتمثلها بعض البلدان النامية والبلدان التي تمر بمرحلة انتقالية في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، وفئة رابعة لم تنشأ نظاما رسميا لضمان الجودة وتدخل فيها مجموعة كبيرة من الدول منها دول الشرق الأوسط وبعض دول أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا؛ وبالتالي يبدو أنَّ هناك أسبابًا عميقة مرتبطة بظروف نشأة التعليم العالي، هي التي جعلت من دول الفئة الرابعة تأتي في آخر القائمة، وتحسين الأداء والانتقال إلى الفئات الأولى يتطلب عمل مُضنٍ وشجاعة وتضحيات لابد أن تقدَّم من أجل نجاح التعليم في تحقيق النمو الاقتصادي.
السؤال الذي أود أن أثيره في هذا السياق عميق جدًّا؛ وهو: هل ستتمكن مؤسسات التعليم العالي من تحقيق مُتطلبات الجودة والاعتماد الخارجي قبل الداخلي؟ وهل يمكن لمؤسسة اعتماد حكومية وغير مستقلة مثل الهيئة العُمانية الاعتماد الأكاديمي -التي يدخل في عضويتها أفراد يقودون مؤسسات تعليمية أو يشرفون عليها- أن تمنح تقارير الاعتماد للمؤسسات التي يمثلونها؟ أخشى أن ثورة الاعتماد الهادئة قد تقود إلى شرعنة ضعف بعض مؤسسات التعليم العالي بحصولها على صكوك غفران مما ينسب إليها؛ مما سيضع الهيئة العُمانية للاعتماد الأكاديمي إلى فقدان مصداقية يجب أن تحرص عليها؛ لأنَّ عدم الحرص سيجعل من مؤسسات تعليمية ترفع شهادة الاعتماد أمام أي نقد لأدائها؛ وبالتالي سيتم تكريس الوضع القائم والذي يشير إلى وجود إشكاليات وتداعيات مؤثرة جدًّا على المستقبل الاقتصادي بصفة خاصة، والمستقبل الوطني بصفة عامة!!