حين تضعف المجتمعات .. تأكل مفكريها

 

د. سيف بن ناصر المعمري

يحكي التَّاريخ أنَّ سُقراطاً كان أوَّل مُفكر يُحاكم في التَّاريخ الإنساني ..وقد حوكم في أثينا أول مدينة ديمقراطية في التَّاريخ، المدينة التي ساعد مناخها الديمقراطي على ازدهار العلوم المختلفة، وعلى نشاط فكري أسس لبداية كثير من العلوم ..في الفلسفة، والقانون، وعلم الاجتماع، وكان للمُفكر في ذلك الوقت قيمته الكبيرة التي لا يُمكن لأيّ أحد أن ينال منها.. وكان لديه تلاميذه وأتباعه الذين يتبعونه في أيّ مكان، ويدافعون عنه، وفي الوقت الذي كانت فيه أثينا تزدهر علمياً، كانت جارتها مدينة أسبرطة تغرق في الظلام، وتحارب كل الأفكار التنويرية، وكان الإنسان فيها محظوظاً إن تمكن من الاحتفاظ بحياته فقط، لكن المُفارقة الغريبة أن سقراطاً لم يًعدم في مدينة أسبرطة المعادية للأنوار، إنما أعدم في مدينته أثينا المحبة للعلوم، فما الذي جرى حتى تنقلب مدينة أثينا على أكبر مُفكريها الذين جعلوها بفضل جهودهم مدينة خالدة في التَّاريخ لا يُمكن لأيّ مؤرخ أو مفكر أن يتجاهل الحديث عنها حين يتحدَّث عن نشأة العلوم، والنظريات السياسية، والديمقراطية، والمواطنة؟.

لا أطرح هذا السؤال من أجل الحديث عمّا جرى لسقراط هذا الحكيم الذي تجرَّع السم بشجاعة فاجأت كثيرين من تلاميذه الذين حاولوا مراراً وتكرارا إقناعه بالهرب من أجل الفرار من الحكم الجائر الذي اتخذ ضده، ولكن كان يرفض من أجل أن يُقدم درسًا خالدًا لكل العصور وهو أن المُفكرين لا يهربون إنما يواجهون مصيرهم بثبات، الذين يهربون كما يحكي التاريخ هم السياسيون حين ينهزمون، حيث يفرون من المَعارك والكراسي والقصور، ويرضون بأن يعيشوا على نفقة البلدان التي يلجأون إليها، ولكن أطرح السؤال لاستقراء الظروف التي حوكم فيها سقراط، وهي نفسها الظروف التي تقود بعض مُجتمعات اليوم إلى مطاردة مُفكريها ومحاكمتهم لا لشيء إلا لخوفها من الأفكار، ومن الكلمة التي يحملونها، فمتى بدأت أثينا الخوف من مُفكريها وفي مُقدمتهم سقراط؟ ومن الذي أدعى على سقراط؟ وما تهمته؟.

 

حوكم سقراط في وقت كان المجتمع الأثيني يمر بضعفٍ شديد، حيث حدثت انقسامات، وازداد الصراع بين مكوناته، مما أدى إلى هزيمة كبيرة من قبل جارتها مدينة أسبرطة في حرب دامت بينهما سبعة وعشرين عاماً، وحكم المدينة يومها من عُرفوا "بالثلاثين مستبداً"، وفي هذه الظروف تقدَّم أحد المواطنين ويدعى مليتوس بشكوى ضد سقراط يتَّهمه فيها بنفس التُّهم التي تستخدم اليوم بعد كل هذه القرون ضد الكُتاب والمُفكرين وهي الكُفر، وإفساد عقول الناشئة، والنيل من هيبة المقدسات بمختلف مُسمياتها، ولم تكن مثل هذه التُّهمة لتمر بدون حساب قاسٍ قاد أثينا مدينة العلوم، والديمقراطية، والحريات، والتسامح، إلى إعدام أوّل مفكر في التاريخ الإنساني، وجعل من "مليتوس" أول مواطن إنساني يكون أداة لمُلاحقة مُفكر، ولا تزال روحه وعقله والتهم التي أطلقها ضد سقراط تحل اليوم في كثير من المجتمعات الضعيفة أمام الأفكار التنويرية، والخائفة من سلطة الكلمة، والمتوجسة من نهج الكتاب والمفكرين أكثر من توجسها من غيرهم من الفئات التي لديها فرص التعامل مع الجماهير، وأكثر من توجسها من مروجي السموم والمخدرات، وأولئك الذين يعملون على زعزعة الأخلاق، ولذا يوجد في هذه المجتمعات عشرات المئات ممن يحملون اسم "مليتوس"، ويقدمون أنفسهم على أنهم حماة للمقدسات التي لا يُهددها أحد كما يهددها المفكرون والكتاب لذا على كل كاتب أن يُدرك حين يكتب أنّ "مليتوس" قد يخرج له في أيّ وقت، لكي يسوقه للمحاكمة، فإلى أين تمضي هذه المجتمعات التي حين تشعر بالضعف، تعمل إلى محاكمة صناع المعرفة فيها؟.

 

إنَّ صناع المعرفة اليوم هم مصدر قوة لأيّ مجتمع إنساني، ولذا انتقلت المجتمعات الإنسانية من اقتصاديات تقليدية إلى اقتصاد يقوم على المعرفة، وعلى التنافس في توليدها، ولذا تهيئ الدول للنخبة المفكرة فيها مناخاً آمناً للتفكير والإبداع والابتكار، وتحميهم من أتباع "مليتوس"، الذين لا شيء يُسعدهم أكثر من إبقاء المُجتمعات في حالة جهلٍ تُسيطر عليهم أفكار ومعتقدات وأنظمة مؤسساتية معصومة لا يُمكن نقدها، أو نقد إجراءاتها، فكيف يُمكن أن تنهض مثل هذه المجتمعات والإنسانية وتتقدم إذا أضفت العصمة على كل المؤسسات والمعتقدات، ورفعتها عن المُفكرين والكتاب؟

إنّ المجتمعات المُتسامحة هي التي تُجنِّب نفسها الحروب الفكرية الداخلية، حين تكون بمنأى عن الحروب العسكرية الخارجية، فكلا الحربين لها آثار مُدمرة على تماسك هذه المجتمعات، ويخطئ من يظن غير ذلك، فحالة السلم الفكري تمنح المجتمع استقراراً يحفز أفراده على التفكير والتعبير عن الرأي بدون مخاوف، ولو كان هناك عدم تقبل لبعض ما يطرح ..يمكن اللجوء إلى المنهج السقراطي، فنلجأ إلى الحوار والمناظرات بدلاً من اللجوء إلى المحاكم، فالقضايا الفكرية يجب ألا تُحسم في المحاكم إنما في المؤسسات الثقافية والفكرية حيث تتاح فرص متكافئة لكل الأطراف للدفاع عن فكرها، ويمكن لأتباع "مليتوس" أن يناظروا من يعترضون على فكرهم، فإما أن يقنعوهم أو أن يقتنعوا بحججهم، وبهذا النهج تتجنب مجتمعاتنا تهمة معاداتها للفكر والتنوير، وتتجنب حالة التوتر المتزايدة بينها وبين الفكر الخلاق الذي يأمل أن ينهض بها، والأسئلة التي آن الأوان أن نطرحها: هل يُمكن أن نسن قوانين تمنح حصانة للمُفكرين من أية ملاحقات؟ وهل يمكن أن ترفض محاكمنا أية قضايا أساسها فكري وتحيلها إلى مناظرات علنية إما في مؤسسات التعليم أو في وسائل الإعلام؟ هل يُمكن أن نبني مُجتمعات متصالحة مع الفكر لكي تتصالح مع الحضارة الإنسانية التي تُعلي من شأن الفكر والمُفكرين أم أننا نُطالب بالمستحيل؟ وإن كان كل ذلك مستحيلاً، ما المستقبل الذي تتطلع إليه هذه المجتمعات هل هو صراع مُستمر بين أتباع "سقراط" وأتباع "مليتوس"؟