د. سَيْف المعمري
استنفار كبير في المنطقة منذ أن تدهورت أسعار النفط، واللغة التي يتكلم بها الجميع هي سبل تغطية العجز المالي، وكأنه هو العجز الوحيد الذي يضغط علينا، وينسينا الضغوطات الأخرى التي لا يريد أحد أن يتكلم عنها، رغم أنَّها كانت سببا فيما نعانيه من ضغط اقتصادي يتفاقم شهرًا تلو الآخر، هذه الضغوطات التي لا يمكن تجاهلها اليوم، وإلا فنحن مجتمعات لا تقرأ الواقع جيدا، ولا تفهم التاريخ الذي يُعاد إنتاجه مرة أخرى، ويأتي في مُقدِّمة هذه الضغوطات: العجز التعليمي، والعجز الثقافي، اللذان يقودان إلى تشكيل مجتمعات يتم التلاعب بها كل يوم بكثير من الأدوات التي تقود إلى تزييف وعيها، وتسطيح فكرها، وتجعلها غير قادرة على المبادرة بتشكيل واقعها وصناعة مستقبلها، وبدلا من أن تجعل نموها وتقدمها غاية لكل سياسة، وهدف لكل تطوير، تسمح بأن تتحول إلى مجرد أداة لتحقيق غايات في كثير من الأحيان لا تحل إشكاليات لكنها تؤجل عملية تفاقمها.
ومع احترامي لكلِّ القلق من الوضع الاقتصادي الذي تعيشه مجتمعات المنطقة، إلا أن المدخل للتغلب عليه ليس اقتصاديًّا وإنما معرفي ثقافي، نحن نعاني من عجز معرفي لا يريد أحد الحديث عنه أو المساهمة في التغلب عليه، لا أحد يريد أن يؤسس مختبرات للتعامل معه، وهذا العجز هو الذي جعل هذه المجتمعات تعاني من فجوات متعددة مواطنين واقتصادية واجتماعية وثقافية، وتنشيط التجارة البترولية لن يقود إلى تنشيط التجارة الثقافية، ولن يعمل على توليد المتع المعرفية التي لا غنى عنها للنهوض ومواجهة المجهول، فالتجارة الثقافية مؤشر على أنَّ المجتمعات الإنسانية تعمل على بناء وعي يجعلها قادرة على معالجة إشكالياتها، وفي الوقت الذي تعمل فيه الدول على بناء مصافي تولد نفطا خام ذا سعر مرتفع لا تُؤسِّس مصافي ثقافية تعمل على التخلص من الشوائب التي تعيق زيادة الرصيد الثقافي.. كم من ميناء ومطار خصصنا له مليارات الدولارات من أجل أن يعبر العالم إلى مدننا، لكننا نسينا أن نُنفق ملايين أقل من ذلك لبناء معابر لانتقال الثقافة ووصولها ليس خارج بلداننا إنما داخل بلداننا.. فجغرافيتنا الثقافية فقيرة جدا، ولا تساعد على الوصول للإبداع والابتكار وتوليد المعارف الجديدة. وأحد أبرز الأدلة على ذلك هو اختفاء التجارة الثقافية لدينا، وصعوبة ولادة الكتب والمؤلفات، وعدم قدرتنا على تمهين الكتابة حيث يتفرغ الكتاب لها بدلا من ممارستها هواية بعد الدوام الرسمي، حين يكونون قد بلغوا إنهاكا جسديا يصاحبه إنهاك معرفي. والكتابة هي ابنة اللحظة، ووحي لا يمكن تأجيل تدوين آياته، وحتى لو تحمَّل فئة من هؤلاء، مُجتمعاتنا صديقة لكل شيء إلا للكاتب الذي تطارده الدولة إذا خاف عليها وانتقد الذين يعملون على تقويض أركانها، ويطارده المجتمع بتهمة الكشف عن معتقداته وعاداته وأفكاره المعيقة للتقدم، وتطارده نفسه إن قبل أن يكتب ما يملى عليه من أجل تزييف وعي أو تسطيح فكر؛ فكيف يُمكن أن تنبت الكلمات في تربة مالحة؟ وكيف يمكن أن تعي المجتمعات سبل التقدم في ظل غياب تجارة ثقافية تولد متعة معرفية؟!
هذه الأسئلة لا أحد يطرحها، لا اليوم والقلق الاقتصادي يسيطر على مختلف البلدان، ولا بالأمس حين كانت الأموال تبذر هنا وهناك وتنفق على كل شيء، إلا الثقافة والمثقفين، وما حصل عليه الاقتصاديون من تحفيز وتشجيع لم ينل منه المثقفون واحدًا بالمئة، ومع ذلك لا أحد اليوم يطالبهم بشيء كما يُطالب المثقفون الذين لم يدعم أي أحد تجارتهم الثقافية، ولم يساندهم أحد من أجل تحقيق المتعة المعرفية في مجتمعاتهم.. آلمني ذلك كثيرا سيما وأنا أقرأ عن حالة ما أطلق عليه بـ"الغليان الثقافي" حيث تمضي الاستعدادات من أجل طباعة 600 ألف كتاب خلال الشهرين القادمين بعد عودة الفرنسيين من إجازاتهم الصيفية في حركة تجارية ثقافية يستفيد منها كُتَّاب ودور نشر وصحف ومؤسسات ثقافية وإعلامية، وتنشط الحركة النقدية والصفحات الثقافية.. أين مُجتمعاتنا من هذا الحراك الفكري الذي ينقذها من الصراعات بمختلف أشكالها؟! وحتى لو وجد بصيص أمل صغيرًا في وجود نواة لتجارة ثقافية معرفية لا تلبث أن تشوه بمثل هذه المعتقدات، وتظهر لدينا طائفية ثقافية أخطر في تأثيرها من الطائفية السياسية والمذهبية؛ لأنها تقدِّم مثالًا سلبيا في الأمكنة التي يجب أن تقدم النموذج الذي يمكن أن ينقذ بقية القطاعات المجتمعية من حالة التوهان التي تعيشها، وتغرق فيها إلى عُمق يصعب فيه الإنقاذ.
لكي نتخلَّص من حالة العجز الاقتصادي، علينا أن نتخلَّص من حالة العجز الثقافي، ولكي يتم ذلك يجب أن تقدم لمؤسسات الإنتاج الثقافي امتيازات لوجستية وتمويلية كتلك التي تقدم منذ عقود للمؤسسات التجارية؛ فالرصيد الثقافي يجب أن يزيد في مجتمعات يتناقص رصيدها المالي، كما لابد من تغيير نظرة المؤسسات والأفراد للتجارة الثقافية؛ حيث يصبح للكتاب قيمة، ويكون هناك استعداد لدفعها بدلا من السعي للحصول المجاني عليه، وكأنَّ الكتاب يسقط من السماء دون أية كلفة. في وقت تخرج فيه كل الأشياء من مؤسسات تجارية يكون لدى الناس في مجتمعاتنا استعداد لدفعها.. فأية مفارقة عجيبة نعيشها!! وأية أحلام نحلمها بالتطور وفعلنا الثقافي ضئيل يجب أن يُشعرنا بالخجل ونحن مجتمعات نفطية ثرية!!