الطريق إلى الأخلاق.. أولا

 

 

د. عبدالله باحجاج

بدا لنا قرار منع الضرب والطرد داخل مدارس محافظة مسقط متناقضا مع واقعنا التعليمي، وخطوة فوقية تتجاهل تداعيات الواقع التعليمي وتجذراته، وتغرد خارج السرب حتى خارج السياقات الدولية، كما أوضحنا ذلك في مقالنا الأخير "الرسائل السلبية لمنع الضرب". وفي ختام هذا المقال، طالبنا بسحب المنع تلقائيا، وحل المشاكل بإستراتيجية شاملة لا جزئية، شريطة الحفاظ على قدسية الثنائية المتلازمة وهى التربية والتعليم، مع ترجيحنا للأولى في مرحلة تأسيس الذهنيات، وقد ارتينا من الضرورة الاستمرار في رفع الوعي بتلك التلازمية عبر الاستعانة بتجارب عالمية، ولنأخذ ملامح من التجربتين اليابانية والأمريكية، لنرى الأولى: كيف ترسخ وتعزز الإخلاق في مرحلة التأسيس، والثانية: كيف تداعت الأخلاق، وأصبحت المدارس فيها تزهق الحق في حياة الطلاب والمعلمين.

تتوافر لليابان على تجربة متطورة في تربية الطفل قبل واثناء التعليم، وهذا مثال نقدمه لأولوية متلازمة التربية قبل متلازمة التعليم، أي أنها تراهن على التربية أولا قبل التعليم، لماذا؟ لإدراكها بأهمية هذه الأسبقية، ولماذا؟ لأنها تعلم أنها لو نجحت في تأصيل التربية في ذهنية الجيل الجديد، مبكرا، فسوف يغنيها عن استخدام الضرب والطرد لاحقا، والأهمية التربوية أولا، نجدها في تخصيص الحكومة اليابانية مادة إلزامية على الطلاب من الأول ابتدائي حتى السادس منه اسمها "الطريق إلى الأخلاق" يتعلم فيها الطفل الأخلاق وكيفية التعامل مع الناس ودور الابتسامة وعمل الخير في المجتمع الياباني والعطف والرحمة والإنسانية وصلة الرحم والكثير من الصفات الإيجابية التي يحتاجها الطفل في حياته، وكذلك يتم تخصيص ربع ساعة يوميا لطلاب المرحلة الابتدائية لكي يقوموا بتنظيف "الصفوف، الساحات، الحمامات…إلخ"؛ وذلك حتى يتم نشأتهم على جيل متواضع يحرص على النظافة، وكذلك لا يوجد رسوب في المرحلة الابتدائية، لأن الهدف منها هي التربية وغرس القيم والأخلاق وليس فقط التعليم والتلقين، وكذلك يقوم أطفال اليابان إلزاميا بأخذ فرش أسنانهم معهم وينظفون أسنانهم في المدرسة بعد الأكل ليتعلموا الحفاظ على صحتهم في سن مبكرة، وعلى العكس من ذلك، فإن أية دولة لم تهتم بالأخلاق في مرحلة التأسيس، فإنها قد أصبحت تعاني كثيرا كالغرب وعلى رأسهم أمريكا، فكل من تابع التداعيات فيها، سيلاحظ أن الأمر وصل بها إلى الاستعانة بالشرطة لضبط الانضباط والسلوك داخل المدارس، ففي أمريكا يوجد ثلاث مدارس من أربع مدارس بها أفراد من الأمن المسلح، والسبب عدم التركيز على التربية في مرحلة التأسيس، فهرم بناء العقول البشرية، أساسه التربية أولا والتعليم ثانيا، ولهذا تم تسمية وزارة التأسيس والتأطير بالتربية والتعليم في مؤشر على التراتبية أولا، ومن ثم التلازمية ثانيا بين التربية والتعليم ثانيا، ولن تستقيم الأمور لو سبق التعليم التربية، أو انفصلت التربية عن التعليم في مرحلة لاحقة، فهما عمليتان متلازمتان بعد تجسيد القيم التربوية وتحقيق الانضباط، ولن يتحقق التعليم داخل بيئة لا أخلاق ولا انضباط فيها.

وهنا، لابد أن نعترف بالخلل الذي أصاب الهرم التأسيسي في بلادنا؛ مما أثر سلبا على شخصية الكثير من الطلاب، وعوضا عن تصحيحه فورا، جاء القرار بغل يد المعلم ليعمق هذا الخلل، راميا بعرض الحائط الواقع نفسه وتداعياته، وهذا الواقع قد أصبحت الكثير من الدراسات الرسمية تحذر منه، وتدق ناقوس الخطر، فكيف يقفز القرار فوقه، وعلى سبيل المثال، نستدعي للاستدلال دراسة لمجلس الشورى خاصة فيمنا يتعلق بصورة المعلم العماني، حيث تؤكد أن الإعلام والأعمال الخاصة للمعلم قد أسهما في تشويه صورة المعلم العماني والحط من قدره، فهل ينبغي أن نأتي بهذا القرار في ظل هذا المناخ؟ كما وقفت الدراسة على "نتائج الاختبارات الدولية التي جعلت السلطنة في ذيل قائمة التعليم، وأوضحت الدراسة مجموعة أسباب منها يتعلق بالعمليّة التربويّة المتمثل في المعلم، فقد تزامن هذا الضعف في جودة التعليم مع كثرة شكاوى المعلمين حول أوضاعهم الاجتماعية والنفسية والماديّة، إذ إنّ الوعي الثقافيّ والانفتاح أخذهم للمقارنة بينهم وبين معلمي الدول الأخرى الذين يحظون بالإصلاحات المتتابعة وبتحسين الأوضاع الاجتماعية والنفسية بوجه عامّ والمادية بوجه خاصّ، مما يقلل دافعيتهم للعمل مع استمرار غلاء المعيشة؛ الأمر الذي جعل المعلم العمانيّ يبحث عن دخل إضافي في التجارة والأعمال الخاصّة، وذلك من شأنه جعل المعلم مشتتا بين التعليم وأعماله الأخرى"، كذلك أوضحت الدراسة "أن القوانين التي تقيد تعامل المعلم مع الطلاب وأولياء الأمور تبخسه حقه دائما، مع غياب لائحة حقوق المعلمين والوعي المجتمعيّ والثقافيّ، وهذا أدى إلى تغيير صورته أمام هؤلاء". فهل صدور القرار في ظل هذه المناخات يبني أم يهدم؟

إذن، ينبغي أن يأخذ القانون التعليمي الجديد الذي اقترحناه في مقالنا الأخير، رفع الجانب المعنوي والمادي للمعلم، وتصحيح الصورة المشوه عنه، على اعتبار أن هذا الأخير هو محور الإصلاحات ودونه لن يكتب لها النجاح، وفي الوقت نفسه إعطائه صلاحيات كبيرة لضبط السلوك داخل المدرسة وخارجها، وهناك دول أوروبية قد أصبحت تراجع قوانين منع ضرب الطلاب، وفي طريقها للسماح به داخل وخارج المدرسة، فكيف نتبنى المنع ونجاهر به بعد فشله؟ كما أن القانون الجديد لابد أن يحتوي على مدونة للقيم والسلوك داخل المدارس تدرس كمادة الزامية منذ مراحل التأسيس وفق متلازمتي الجمع بين التربية والتعليم، على أن يكون للأولى أفضلية خلال الثلاث السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية، والجزء الآخر من المشكلة يكمن كذلك في عقلية جيلنا الذي أسمى غايته هو نسخ وطباعة وحفظ الكتب من غير النظر لجوهر المعرفة الموجودة داخل الكتب، حتى أصبح الطالب والطالبة يحفظون كل ما يتم تلقينه من غير اللجوء إلى الابتكار والاختراع، كما نقترح إشراك المجتمع في إدارة ضبط السلوك المدرسي، خاصة التربويين من الجيل القديم المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والأمانة وأصحاب المكانة الاجتماعية المعروفين، وكذلك أعضاء المجالس البلدية -مقترح سابق- وهنا نجد أنفسنا أخيرا أمام هذا التساؤل، هل الأهمية الوطنية العاجلة تكمن في ذلك القرار أم في إصلاح شامل لمنظومة التربية والتعليم؟