الرسائل السلبية لقرار منع الضرب

 

 

د. عبدالله باحجاج

 

عندما قرأتُ خبرَ منع الضرب والطرد في مدارس محافظة مسقط، تبادر إلى ذهني مجموعة تساؤلات مهمة جدا؛ أبرزها: لماذا مسقط فقط؟ وهل سيتم فصل التربية عن جناحها الثاني التعليم؟ وكيف سيتمكَّن المعلم من التعامل مع المشاغبين في الصف؟ والتلويح بالعقوبات الحبسية للمعلم، هل سينعكس إيجابا على الانضباطية داخل القاعة "الفصل" أو داخل الفضاء المدرسي؟ وهل وراء هذه الخطوة تفسيرات قانونية مغلوطة حتى يتم الزج بالاتفاقيات الدولية بما فيها اتفاقية حقوق الطفل؟ فهل الضرب للزوم التأديب أو التلويح به يدخل ضمن التجريم الدولي؟ ولما بحثنا في تجارب عالمية بما فيها أوروبية وأمريكية، وجدنا أن معالجتهم لظواهر العنف لم تكن على حساب المعلم وهيبته، فأستراليا مثلا طردت في أحد الأعوام "الآلاف" من الطلاب من المدارس، كما أصدرت بلغاريا قوانين أكثر صرامة لسلوك الطلاب، وأعطت المعلمين صلاحيات جديدة لمعاقبة الطلاب المشاغبين.

ولن نجد معلما أو معلمة في مدارسنا يجنح نحو العنف المجرم عليه عالميا، سواء كان جسديا أو لفظيا، ولن نجد في مدارسنا العنف الذي تتحدث عنه الدراسات النفسية لتأثيره على مستقبل شخصية الأطفال والشباب، وإن وجدت حالة أو حالات محدودة، فهذا لا يعكس الواقع العام، وبالتالي لا يحمل الاستثناء على أنه واقع أو العكس، وقد نجد قلة من يلجأ إلى الضرب الخفيف للزوم التأديب، وحتى في إطار هذه القلة، فإن اللجوء إليه ليس من قبيل التطبيق وإنما التلويح به. من هنا، ينبغي أن نسقط حجية العنف في مدارسنا وتعارضه مع اتفاقية حقوق الطفل، وهنا ينبغي أن لا ننسى أننا نتعامل مع حقل تربوي وتعليمي، مزدوج، ومترابط الازدواجية، من أهم أساسيات النجاح فيه: إعطاء المعلم والإدارة المدرسية بعض الصرامة وليس العكس، وهى لازمة في مدارسنا لعدة أسباب؛ منها: تراكم المشكلات الاجتماعية وتأثراتها على الطلاب، وانتقالها معهم إلى المدارس، وكل من ينظر للمشكلة من خارج البيئيات التعليمية لن يتخيل نوعا معينا من الطلاب، وهم في تزايد مقلق مع ازدياد العدوانية بسبب إيقاع الحياة والحاجات المكبوتة، والتجرد من مثل هذه التخيلات قد يحدث إشكالًا كبيرًا عند من يقارنون بين الضرب اللازم للتأديب والعنف في الغرب أو في الكثير من دولنا العربية، المهين للكرامة والمسيء للطفولة، فبسبب تزايد العنف في بولندا مثلا، فقد وضعت خطة إصلاحية للمدارس تحت اسم "بلا تسامح" قد شددت من عقوبات الجرائم التي تقع على المعلمين من الطلاب، كما حمَّلت المعلمين مسؤولية كبيرة في حالة عدم إبلاغهم عن أعمال العنف في المدرسة قد تصل إلى عقوبة السجن، ماذا يعني ذلك؟ يعني أن العنف قد يمارس كذلك من الطلب على المعلم أو من الطالب على زميله أو بين الطلب وإدارة المدرسة أو بين الطالب والمؤسسة المدرسية؛ باعتبارها كيانًا ماديًّا به تجهيزات ممكن أن تتعرض للعنف؛ فالمشكلات الاجتماعية، وتعددها وتنوعها، في ظل غياب التربية الأسرية، ستنتقل مع الطالب إلى بيئته المدرسية، ويمكن أن تنتج أشكالا عدوانية. فهل قرار غل يد المعلم يعالج العنف في أشكاله المختلفة، أم ينزل جم غضبه على محاولة إصلاح المعلم تلميذه؟ أتدرون ماذا يعني منع الضرب والطرد؟ إنَّه يسحب السلاح النفسي الرادع للمعلمين، هو فعلا من ذلك المنظور سواء اتفقنا مع الضرب أم لا من حيث المبدأ، ولنا تصور مستقبل النظام المدرسي بعد تجريد المعلمين وإدارة المدارس من هذا السلاح النفسي؟

هنا.. ينبغي القول صراحة بأنَّ العبرة في أية تطوير أو تغيير في التعليم سواء كان شاملا أو جزئيا، يكون دائما في انعكاساته داخل القاعة "الفصل" وبما يشيعه على النظام المدرسي عامة، إذن، ما هى انعكاسات قرار منع الضرب داخل القاعة؟ ينبغي أن تكون إجابتنا عن التساؤل من حيثيات الواقع الاجتماعي نفسه، ومنها سنرى أن القرار فوقي، ويتم إساقطه بالبارشوت؛ وبالتالي فهو سيضر أكثر مما يفيد؛ فالحيثيات هى كالتالي: أن القرار أحادي الجانب، ومنعزل عن سياقات حتمية لابد من اتخاذها تزامنا، كما أنه يراد تطبيقه في واقع مليء بالتراكمات السلبية؛ منها: ظواهر التعطيل الجماعي للطلبة للتعليم قبل العطل وبعدها،  ومنها التسرب، وتدني المستويات، وقلة احترام المعلمين، والتدخين...إلخ، وهى تراكمات بنيوية عميقة. فهل قرار منع الضرب والطرد في ظل هذه البيئيات سيحل مشكلة أم سيعمِّق مجموعة مشاكل؟

إذن، يُكمن حل مشاكلنا التعليمية والتربوية، القديمة والجديدة والمستقبلية، في الحل الشامل وليس الجزئي، وفي النقلة النوعية والكمية، لا الانتقائية للسمعة الخارجية، فالتعليم -كما يقال فعلا- عملية متكاملة الجوانب وتامة الاركان؛ وبالتالي يستوجب علينا إصدار قانون تعليمي جديد صارم يحدد نوع وحجم المهام المفترض الالتزام بها من قبل الطرفين المعلم والطالب، ويتشدد في العقوبات حتى نقضي على مثل تلك الظواهر سالفة الذكر، وفق قاعدة إن المعلمين والمعلمات ينبغي أن يكونوا هم أساس التغيير والتطوير؛ لأنَّ المحور الأساسي لأي تطوير إذا لم ينعكس على ما يدور داخل الفصل، فلن يكون هناك تطور حقيقي للتعليم، ودونه سيكون كمن يدور في حلقة مفرغة، وأعمالنا بلا ثمرة وبلا نتيجة، مثل منع الضرب والطرد، فإذا سلمنا به، فإنه كان ينبغي تقديم البدائل للحفاظ على الانضباطية داخل الفصل وحماية فضاء المدرسة وأمنها، حتى لا نلجأ إلى الاستعانة بالشرطة داخل المدارس كما لجأت دول عربية وأجنبية، بحيث نجد فيها أفرادا خاصين من الشرطة يقيمون في مدارسها، ولنا في تجربة دول كأمريكا نموذج هنا، فهذه الدولة لم تعد دولة كبرى في الاقتصاد والسياسة والقوة العسكرية، وإنما هى كذلك دولة متقدمة في العنف وتفشى الاغتصاب المدرسي...إلخ؛ فلنوقف قرار المنع فورا، فقد بعث برسائل سلبية للطلاب، وحطم السياج النفسي والمعنوي للمعلمين في وقت كنا ننتظر تعزيزه لا تحطيمه، وإذا كان لابد منه، فإنه ينبغي أن يكون في إطار الحل الشامل.. وللمقال جزء ثان!