مجرد نكتة

 

أحمد الرَّحبي

من ضمن مُميزات الإنسان التي تُميِّزه عن الكائنات الأخرى: الضحك؛ فالضحك -مثلما اللغة- من الملامح المُميزة للكائنات البشرية؛ فالإنسان يُعتبر كائناً ضاحكاً بعكس الكائنات الأخرى متى ما استدعت مواقف تحدث في حياته ضمن مفارقة معينة الضحك، ضحك من قلبه، فالضحكُ يُعتبر استجابة غريزية مُباشرة وسريعة لبعض المواقف التي تحدث أو تصوغها سلسلة من المُفارقات العجيبة التي تحدث في بعض الأوقات في حياة الإنسان، وليس هناك إنسان مُحصَّن ضد الضحك إلا من يُعتبر حالة شاذة، وقدماء المصريين يعتقدون أنَّ العالم خُلق من الضحك، فحين أراد الإله الأكبر أن يخلق العالم أطلق ضحكة قوية فكانت أرجاء العالم السبعة حسب الأسطورة الفرعونية للخلق، والضحك هو عبارة عن تجربة جمالية تنساق من الداخل إلى الخارج، أي من مُتعة ذهنية صرفة يُعبَّر عنها بردِّ فعل حركي يُعرف بالضحك؛ وذلك خلافاً لتجربة التَّمتع بمُشاهدة لوحة فنية جميلة مثلاً؛ حيث تنساب المُتعة الجمالية من العين إلى الدِّماغ، أي من الخارج نحو الداخل، فيُعتبر الضحك كرد فعلٍ حركي للموقف الضاحك، والذي يُحرِّك خمس عشرة عضلة في الوجه، وتفيد هذه التجربة الجمالية من الناحية الصحية الجسم في إمداد الدم بالمزيد من الأكسجين، وتُساعد على التَّقليل من هرمونات التوتر، وتقوية مناعة الجسم، وبحسب فرويد، فإنَّ الضحك كمُمارسة أو كرد فعل إذا أردنا الدقة على أفعال ومواقف شادة، يحرر الضاحك من نير القلق والأفكار السلبية، والنتيجة هي استبعاد طاقة التَّوتر من خلال عضلات الوجه والجهاز التنفسي؛ حيث تعمل الضحكة على غسل الدواخل مما يجري فيها من عواطف سالبة، وتنشأ اللحظة الفارقة للموقف الضاحك حينما يمتزج اللائق المنطقي على نحو مفاجئ مع الوضيع والعبثي حسب بعض الفلاسفة من بينهم باسكال وكانط وشبنهور.

وفي الوقت الذي باتت فيه وسائل التواصل الاجتماعي تعج بسيل من الرسائل التي يدور بعضها في فلك الخبر الصادم والمزعج والمتشائم، والبعض الآخر يتلون بألوان فاقعة من اللامعقولية والإشاعة المفرطة والكذب البواح الذي ينافي أبسط الحقائق، تغدو طرفة أو نكتة خفيفة يجري تداولها بعض اللحظات في كلمات محدودة، معادل لا يقدَّر بثمن لكل هذا السيل الهادر من الرسائل، والنكتة التي هي ابتكار بشري ذكي تشكل محفزا قوياً للإضحاك فهي برغم مظهرها البسيط ونتيجتها الباسمة تُعتبر وسيلة تعبير قوية تتضمن كافة الآراء والمواقف البشرية، معتمدة اعتمادًا جمعياً كرد فعل جمعي على بعض الأحداث، فهي موقف صاغه عقل جماعي مجهول بمفردات بسيطة قوامها المفارقات المكثفة التي تعج بها وقائع الحياة اليومية، وتبقى النكتة تقنية لغوية بالغة التكثيف والسخرية، شديدة النفاذ بمضامينها المُركزة التي تغني الواحدة منها عن مقال كامل أو حديث مسهب، ويصف مارفن مينيسكي وهو أحد الآباء الشرعيين للذكاء الصناعي، النكتة بأنها تطورت لتبيان الخطأ في منطقنا أي عندما يضل منطقنا، فإنَّ الضحك يُعيد لفت تركيزنا إلى الخطأ؛ فهي تعتبر بمثابة المنشور الذي ينفذ بسخريته اللاذعة إلى الأعماق، والصحيفة غير المدونة والأداة التي يبدد بها الناس همومهم خصوصاً البسطاء الذين لا يجيدون تدبيج المقالات ولا الخطب والتحليلات العميقة التي تشرح الواقع المعقَّد، فمن خلالها هم يضحكون من عجزهم ومن أنفسهم ويروِّحون هموم الحياة بجوانبها المختلفة، ولا يستقيم الوصف لهذا النوع الأدبي الساخر إذا لم نُشر إلى أن النكتة التي تعتبر نوعاً من أنواع الأدب الشعبي، تتطلب من كافة الأطراف قدراً متساوياً من الذكاء والمعرفة وخلفية لغوية وثقافية مشتركة، فمن المهم أن يمتلك كافة الأطراف فيها المُلقي والمُتلقي قدراً متساوياً من الثقافة والذكاء والمعرفة المشتركة تمكن المُتلقي من فهم مغزى النكتة، وبرغم أنَّ النكتة هي أحد الفنون ذات القيمة الجمالية لكن هذه التجربة الجمالية خطرة بمقاييس كثافتها، فالنكتة لا يُمكن أن تكون بريئة تماماً كونها تعتمد على السخرية أو التشمت أو التشفي أو تحقير مشاعر وأفكار الآخرين، أضف لهذا تتضمن بعض النكات جانباً دينيًّا محرَّماً أو عنصريًّا بغيضاً، أو قسوة غير مبررة تجاه البؤساء والعاثرين، فكما هي العادة في إنتاج النكت واستهلاكها، تملك كل الشعوب فئات مُستهدفة (على أساس عرقي أو ديني أو مناطقي) يتم إسقاط النكات عليها بشكل دائم، والشيء الأخطر في النكتة أنها تعبير لا يُمكن التحكم في مصدر صناعته ولا ضبط إيقاعه ولا حتى إيقاف رواجه، كتعبير، وما يُميز النكتة عمومًا عن الحكايات الطريفة، هو كثافتها الشديدة وحملها للمعنى في سطور قليلة وقدرتها على النفاذ؛ فالنكتة في شكلها الكلاسيكي مُختصرة جدًّا على غرار هذه النكتة: كنت قبيحاً جدًّا حينما ولدت، لدرجة أنَّ الطبيب صفع أمي!