د.عبدالله باحجاج
المقاطعة الاقتصادية -كما عرفها موقع ويكيبيديا- هي عملية التوقف الطوعي للمستهلك عن استخدام أو شراء أو التعامل مع سلعة أو خدمة ما لجهة معينة تسيء أو تلحق الضرر به أو بغيره كشكل من أشكال الاستنكار أو الاعتراض، وهي بذلك حق مشروع، والكثير من المجتمعات تستخدمه كسلاح لحماية حقوقها في ظل عجز حكوماتها عن كبح جماح طغيان الربح على حساب الجودة والخدمة والسعر، وما يحدث حاليًا في بلادنا من حملة تصعيد مجتمعية ضد شركات الاتصال، له أبعاد عميقة سواء على صعيد إعادة صناعة المجتمع أو على صعيد علاقة المجتمع بالسُّلط داخل الدولة، سواء كانت حكومية أو عمومية أو خاصة، ولابد لسلطتنا السياسية من إدراك إكراهاته المقبلة، فهو يعد من التحولات الكبيرة التي لن تكون الاخيرة، فكيف ينبغي مواجهتها منذ الآن؟
ليس مهما من وراء حملة المقاطعة الراهنة، وليس مهما الآن حجم نجاح المقاطعة، الأهم هنا، أن ثقافة المقاطعة المجتمعية قد بدأت تتبلور من خلال قضية الاتصالات، وستترسخ في الذهنيات المجتمعية كسلاح مؤثر – دون شك – خاصة عندما يتعاظم الشعور بالاستغلال وسوء الخدمة وطغيان الربح، أو عدم اللامبالاة بمشاكل واحتياجات المجتمع، عندها لن يكون الحل سوى المقاطعة، فالمقاطعة الراهنة تفتح هذه الأفق لقادم الأيام، وهذا يعني أن المجتمع يتغير، وأن لديه أدوات فاعلة للدفاع عن حقوقه، ستتطور تباعا، ومن مميزات هذا التغير الاجتماعي، أنّه تحول بشكل مفاجئ وقاطع، ونتائجه تكون مرتبطة بالظروف المحيطة، كالمقاطعة، وماذا يعني هذا؟ يعني أن التطورات المجتمعية قد أصبحت تأتي من رحم التغير – وفق ما أوضحناه سابقا – وليس من رحم التغيير حيث يعد التحول فيه قائما على الفكر وتدبر مسبق، ونتائج تكون محسوبة بقدر المستطاع، والخلل في هذا التحول يكون في مساحة ضيقة، يسهل السيطرة عليها، على عكس في حالة التغير، فهل نفهم الفارق الجوهري بين المفردتين؟ والسبب؟ يكمن في جمود الأداء الحكومي مقابل ديناميكية المجتمع، فهل لنا إذن أن نستشرف مستقبل العلاقة بين الحكومة والمجتمع؟ فالقضية المثارة حاليا على صعيد الوطن، ضعف أداء بعض الوزراء وفاعلين عموميين يترأسون قطاعات حكومية أو شبه حكومية وخاصين، وبالتالي، فإنّ المقاطعة هي ردة فعل على أفعال حكومية وعمومية وخاصة، فالمطالب المجتمعية ضد شركات الاتصالات مشروعة؛ لكن، هل هي تتحمل السبب لوحدها؟ من كان يعتقد أن المجتمع سيظل صامتا على اختلالات بنيوية في خدمة الاتصالات، فهو ينقصه الوعي السياسي بتطور الشعوب وعلاقتها بالسُّلط، أو أنه ينتظر حتى وقوع المشكلة أو هما معا، أوبل إننا نرى أن ردة الفعل المجتمعية قد جاءت متأخرة جدا، لكنها جاءت أخيرا، وسوف تتشكل وتتطور حتى يتم الاستجابة لمطالب رفع مستوى الجودة وشمولية تغطية شبكات الاتصال وخفض كلفة الخدمة، ولن نتغنى هنا باستجابة مؤسسات منتخبة كمجلس الشورى مع المقاطعة، لماذا؟ لأن الاستجابة هي ردة فعل كذلك، في حين أنه كان ينبغي عليه صناعة الفعل عبر جعل قضية الاتصالات في سلم أولوياته، فضعف الجودة والتغطية والأسعار المرتفعة لم تؤثر على المستهلك فقط، بل إنّها تؤثر فعلا على تطور قطاعات مهمة في البلاد، وعلى رأسها التعليم، فذلك الضعف المزدوج، يحول دون استخدام التعليم الإلكتروني في المدارس رغم إقامة الكثير من المدارس، وبذلك هدر لأموال الدولة، كما أن مستقبل العصر الإلكتروني في بلادنا يحتم جعل الخدمة الإلكترونية في قدرة الشرائح الاجتماعية، وهناك دول قد ادركت هذه الأهمية، ووزعت خدمة الوايف مجانا في الأماكن العامة، وفي بلادنا التسعيرة فوق قدرات الطبقة الوسطى، فكيف بالطبقة الدنيا؟ ومع هذا هناك اندفاع نحو الحكومة الإلكترونية، ونحو تحويل معاملات الوزارات إلى الفضاء الإلكتروني، وهذا كبرى التناقضات، فكيف نفعِّل الحكومة الإلكترونية والشبكة لا تغطي حتى المدن الرئيسة والأسعار مرتفعة؟ والمثير العجيب هنا، تفرج الجهات الحكومية المختصة على هذا الوضع، وكأنّ هذه القضية ليست من اختصاصها، ولا تعنيها أبدا، رغم أنّها المسؤولة عنها، فهي تتحمل المسؤولية، لأنّها تركت الوضع كما هو عليه، حتى انفجر الاستياء، ومن ثمّ تحركت، وهي بذلك ترسخ ثقافة تحقيق المطالب تحت الضغوطات المجتمعية، فلماذا لم تخطط مسبقا في حل الإشكاليات التي يعاني منها قطاع الاتصالات؟ فلو فكرت وخططت لوجدت أنّ مستقبل تطور بلادنا يتوقف على جودة وسرعة الاتصالات، وكذلك أن تكون في متناول أفراد المجتمع، لذلك ظل تعليمنا متأخرا عن استخدام التكنولوجيا، وظل المواطن يذل نفسه من منزل إلى آخر أو في المقاهي أو المكاتب لكي يسجل ابنه في البوابة التعليمية.
رسالتنا هنا لصناع القرار أن المقاطعة الراهنة تفتح لنا سيناريوهات حتمية لمشهدنا الوطني، ستظل دائما محكومة بجمود الفعل السلبي، حكوميا وعموميا وخاصا، وديناميكية المجتمع، بحيث سيكون أهم ملامحه تفجر مجموعة احتكاكات مماثلة إذا لم ينتقل هذا الفعل من سلبيته إلى إيجابيته، ويعمل على استيعاب التطورات الطبيعية مسبقا قبل أن ترتد عليه سلبا، وهذا لن يتأتى إلا إذا تم تفعيل اليات وميكانيزمات عمل الحكومة، فمن الملاحظ للرأي العام أن هناك ضعفا في الأداء الحكومي ليس بسبب الأزمة النفطية، فقد كان قبلها كذلك، فجاءت هذه الأزمة لتظهر لنا خلفيات هذه الضعف على السطح تماما، وبالتالي، كان متوقعا انفجار قضية الاتصالات، ونتوقع انفجارات أخرى، فالعديد من الوزارات وضعها الآن كوضع تسيير أو تصريف الأعمال فقط، يظهر شأنها وكأنها ناقصة الصلاحيات رغم أنّها تملك الصلاحيات، حيث تقوم بالمهام في حدوده الأضيق، من هنا ينبغي الإسراع في نقل المؤسسة الوزارية من مهمة تسيير الأعمال الراهنة إلى مهمة التدبير والمواجهة مع ما يستتبع كل ذلك من إدارة أزمات قبل تقع حتى لا تقع، ورغم أنّ توصيف مهمة تسيير الأعمال لا ينطبق على الحكومة ولا أية وزارة من وزاراتها، لكننا نراه أي التوصيف مجسدًا في أفعالها وتصرّفاتها منذ عام 2011، مما أنتج عنه ذلك المشهدين، الديناميكية والجمود، ولو استمر هذا المشهد طويلا، فالاحتكاكات قادمة، ولن تكون تقليدية ولن يحاسب عليها القانون، لأنّ المقاطعة حقا من حقوق المستهلك، كما أنها ليست بحاجة إلى موافقات قانونية، لأنه ليس لها وقائع مادية ملموسة، كالمظاهرات والاحتجاجات.. إلخ فعلا المجتمع يتغير من تلقائيته أي خارج نطاق التغييرات المستهدفة بسبب الجمود، فهل ستتغير الحكومة أو أداءها؟ لم يعد هناك من خيار سوى مزامنة التحوّل، ومسارعته من جانب الحكومة، لأنّها صاحبة الفعل دائمًا، ومتلقية ردة الفعل دائما.