صديقك من صَدَقَك لا من صَدَّقَك

 

 

زاهر بن حارث المحروقي

لا أدَّعي أنَّي كاتب؛ فما أكتبه هو مُجرد محاولات لتحليل الواقع كما أراه أنا ولا أمثِّل أحداً وإنما أعبِّر عن وجهة نظري كما أراها، ومن باب أولى أنَّي لا أدَّعي لنفسي الصواب في كلِّ ما أكتبه ولا ألزم رأيي أحداً، إلا أني أؤمن أنّ على الإنسان أن يقول ما يؤمن به ولا يُمسك بالعصا من المنتصف كما يقول المثل، لأنّه في حالة كهذه سيبدو هذا الإنسان تائهاً ولا يدري ماذا يُريد أن يقول؛ والكتابةُ في الأصل هي رسالة، حالتها كحال الخُطبة الدينية أو الخطاب الرسمي وغيرهما، ومتى ما اختفت الرسالة من الكاتب فصمْتُه يكون أفضل. ومن أجمل ما قرأت في هذا الشأن ما قاله الكاتب فهمي هويدي عندما قال: "من المُهم ألا يُغالط المرء ضميره ويُزيِّف الحقيقة أو يتستر عليها، إذ إنّه في هذه الحالة لن يرتكب جرم "الشيطان الأخرس"؛ وإنما سيقع فيما هو أسوأ، حيث يصبح "شيطاناً فصيحاً"؛ إذ لن يكتفي بالسكوت على الحق وإنما سيتورط في الترويج للباطل".

وغالباً الحقيقة لا تُعجب الكثيرين، فيفضِّلون أن يهربوا منها، كأنّ الهرب هو الحل، وعندما يواجههم أحدٌ مّا بالحقيقة، فإنّهم يتشنجون وينسون القضية الحقيقية ويثورون على قائل الحقيقة كأنّه هو "القضية"، والواقع يقول إنّ البداية الحقيقية لمُعالجة أيِّ مرض أو أيِّ مشكلة أو قضية، تكون بالاعتراف بها، ودون ذلك الاعتراف فلن يكون هناك أيّ علاج أو حل. وما أود أن أقوله أنّ حكمة العرب ستبقى أزلية عندما قالوا "صديقُك من صَدَقَكَ القول لا من صَدَّقَكَ"؛ فطبيعة النَّاس قد جُبلت على حبِّ المديح حتى وإن كان كاذباً، وجُبلت على كره النقد حتى وإن كان صادقاً يُرجى من ورائه المصلحة العامة.

قد تكون تلك المُقدمة خير مدخل لتناول علاقة المثقفين والكُتّاب مع السلطة في الوطن العربي، نظراً للإشكاليات التي تعتري هذه العلاقة بين الطرفين؛ فهي غالباً يحكمها شك وتوتر وعدم ثقة، وقد تصل هذه العلاقة إلى العداء، وهذا يجعل الفجوة تكبر بين الحكومات العربية وبين المثقفين وأصحاب الرأي والفكر، ممّا يُؤدي إلى خسارة كبيرة للجانبين معاً؛ للحكومات بخسارتها لآراء المُثقفين والمُفكرين وأصحاب الرأي، وللمُثقفين والمُفكرين أيضاً بانطوائهم وعدم  المشاركة في إبداء الرأي في أمور تخص الوطن والمواطنين أو تخص الأمة بشكل عام. وفي رأيي لا يجب الخوف ممّا يكتبه الكُتّاب والصحفيون – وإذا جاز لي أن أضم نفسي إليهم – فأقول إننا لا نملك دبابات أو أسلحة نواجه بها الحكومات، وإنِّما لدينا غيرة لأوطاننا وعروبتنا وديننا، ونتمنى أن تكون أوطاننا خير أوطان وأن تكون شعوبنا خير شعوب في الأرض تنعم بخيرات أوطانها وتعيش في خيرٍ وسلامٍ، بعيداً عن الحروب والتناحر والحقد والكراهية. ولا يوجد ما يُخيف إذا أبدى المفكرون أو المثقفون آراءهم صراحة؛ لأنّ ما يشغل بالهم غالباً ما يكون هو ما يشغل بال عامة النَّاس، من الهموم والأوجاع والآلام والطموحات والأحلام، فلا داعي للنظر إلى الكُتّاب بعين التوجس والحذر، والتوهم بأنّهم يثيرون البلبلة والإزعاج ويفتحون الأعين على ما لا ينبغي الوعي به أو الاقتراب منه، وقد رأينا في طول الوطن العربي وعرضه من يتَّهم الكُتّاب في ولائهم وفي وطنيتهم، ورأينا من تمَّ التحقيق معهم، ومن تمَّ الزج بهم في السجون، لأنهم قالوا كلمة اعتقدوا أنها حق وأنها تخدم الوطن، كما رأينا من يتم تجاهلهم وتجاهل عطاءاتهم، حتى في لحظات مرضهم ووفاتهم، مثلما حصل مع الكثيرين من المُفكرين في الوطن العربي؛ وكلُّ ذلك بسبب الخوف من الرأي أو من صاحب الرأي. ولا توجد أيُّ حكومة في الأرض دون إيجابيات أو سلبيات، وقد رددت كثيراً أنّ الأمانة تقتضي دائماً ذكر الإيجابيات، وتناول السلبيات إنْ وُجدت بهدف تلافيها؛ وأؤكد ثانية أنّ من الخطأ إظهار أنّ دول الخليج منزهة عن الأخطاء، لذا ليس هناك أيُّ ضرر في تناولها، وإلا فكيف سيتم الإصلاح؟.

على المُفكر والمُثقف أن يُبدي رأيه، سواء أُخذ به أم لم يؤخذ به، فمهمته هي تطوير الأفكار، ورسالته هي الارتقاء بالمفاهيم وهي التبشير بالغد؛ ولا يمكن طبعاً التبشير بالغد وتجاوز الأمس إذا كانت القيود ستُفرض على الكاتب بحيث يلغي نفسه ويكتب ما تُريده السلطة فقط، فهو قبل أن يكون كاتباً فهو إنسان ابن مجتمعه، يتفاعل مع الأحداث حوله ويحللها ويقدم رأيه فيها، مدعوماً بالوثائق والمستندات التي تؤيد رأيه. فهل يمكن لأيِّ كاتب مهموم بقضايا الأمة العربية - مثلاً - أن يتجاهل مجزرة صنعاء، أو مقاطعة شركات الاتصالات، أو ارتفاع أسعار النفط، أو الأوضاع في اليمن، أو غيرها من القضايا التي تمر عليه يومياً..؟!

إنّنا عندما نكتب فإننا نكتب بحذر، لأننا نراعي أشياء كثيرة، نراعي المقامات، ونراعي العلاقات الأخوية بين الأشقاء، ( رغم أنّ الأشقاء لا يراعون تلك العلاقة، ويتهجّمون على مواقف عُمان، وكأنّ الهدف أن تُطبِّق عُمان سياسات تلك الدول؛ وعندما يتصدى أيُّ كاتب عُماني لتفنيد تلك المزاعم، يتم الحديث عن الأخُوّة والجيرة وغيرها من المُفردات؛ وتأتي الاحتجاجات من هنا وهناك). ولكن أرى أنّ من واجبي وواجب أيِّ كاتب أن يُحذِّر من الخطر إذا رآه أمامه، وإلا فإنّ كلَّ الكتّاب يمكن أن يكونوا نسخة مكررة يكتبون الشيء نفسه ولا يأبهون بقضايا الوطن الداخلية أو القضايا المحيطة حول الوطن؛ فكلُّ ما يجري في الجوار يؤثر على الداخل، ونحن أشقاء إخواننا في الخليج، فإذا انفرط عقد أيِّ دولة خليجية فإنّ ذلك سيؤثر على الكلَّ، إذ إننا نكمل بعضنا بعضاً، أو هكذا يجب أن يكون الأمر، وهذه حقيقة أؤمن بها. ولا أعتقد أنّه يجب علينا أن نكتب فقط عن فستان هيفاء وهبي أو حفلة أليسا أو ابتسامة نانسي عجرم.

أعلم أنّه حين تضعف شوكة الدول، تصبح هذه الدول مثل الرجل المريض الذي تتكاثر عليه الأمراض، فيعتكر مزاجه ولا يُطيق سماع نصيحة طبيب ولا كلمة تطييب من حبيب، ويعتقد أنَّ كلَّ الناس تقف ضده، وهذا ليس صحيحاً أبداً؛  فكلمةٌ واحدةٌ مخلصة وصادقة لأجل الخير، خيرٌ من مجلدات نفاق لا تلبث أن تزول بزوال المصلحة.

عموماً عندما تكون العلاقة بين المُثقفين والسلطة صحية في أيِّ مكان في العالم، فإنّ ذلك دليل على الرُّقي والتقدم؛ وأنا عندما أكتب فدائماً أبحث عن المصلحة العامة، سواء في عُمان أو في دول الخليج الشقيقة، أصبتُ في ذلك أو أخطأت.