علي كفيتان
أكرِّر اعتذاري للقراء المتابعين لسلسلة "من وحي الذاكرة"، على وعد بالاستمرار إن شاء الله؛ حيث إنَّ الحدث الأبرز هذه الأيام في ريف ظفار هو موسم "خطلت الإبل"؛ أي بَدْء موسم رعي الإبل بعد أن توقَّفت عن زيارة الريف الأخضر منذ بدء موسم الخريف، هذا الحدث يُمثل ظاهرة ثقافية قديمة لها أعراف وسُنن غابت خلال الأعوام الماضية، وعادت للظهور مُؤخرا لأسباب عدة؛ ربما أبرزها: الحنين للماضي الجميل من مُلَّاك الإبل الأصليين، بينما نجدها مُجرَّد رفاهية لمن لم يكونوا يمتلكونها قبل هذا العهد، واختلط الحابل بالنابل، فبينما كان العُرف السائد بين الملاك التاريخيين للإبل هو احترام مكونات الطبيعة والتوازن بينها وبين الحمولة الرعوية، والالتزام بوقت محدد لبدء الرعي في جميع المناطق، أدخل المربون الجدد معطيات خدشت العرف؛ فتجد كلَّ واحدٍ منهم لديه قطيع من النوق، ولا يلتزم بأي اتفاق عام، ويطلقها مع عامله الوافد إلى المرعى، بينما هو يتبعها ويصور لنفسه عدة مقاطع فيديو ليرسلها لأحد أصحاب الشيلات، مُعظِّماً نفسه، وكأنه لا يشق له غُبار، بينما تكون نوقه جمعها من زكوات الملاك الأصليين للإبل.
أصدرتْ وزارة البيئة والشؤون المناخية هذا العام قرارًا يُحدِّد العاشر من أكتوبر موعدًا لبدء موسم رعي الإبل في الريف، ولا شك أنَّ هذا القرار كان شجاعاً ويُحسب كخطوة جريئة للمديرية العامة للبيئة بمحافظة ظفار رغم افتقاره للسند القانوني الذي يقبع في أدراج وزارة الزراعة والثروة السمكية، والمتمثل في قانون المراعي وإدارة الثروة الحيوانية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (8/2003) ولائحته التنفيذية الصادرة بالقرار الوزاري رقم (12/2005)، والذي لم يُطبق شقه المتعلق بتنظيم الرعي منذ صدوره.. وهنا نتساءل: ما الذي حَدَا بوزارة رقابية للدخول في معترك تنفيذي يخص جهة أخرى؟ نحن نعلم أنَّ قانون حماية البيئة ومكافحة التلوث رقم (114/2001) فيه مواد يمكن أن تكون مبررًا لهذا القرار، ولكنها ليست كافية من منظورنا؛ لذلك لم يستند التعميم المنشور لأي قانون.
هذه الظاهرة السنوية لها جوانب عدة؛ أهمها: الجانب العرفي الذي ظلَّ صامدا لسنوات طويلة، ثم انهار بعد أن أصبح الكلاء ملك عام خارج نطاق العرف السائد؛ فالأمر في الأصل هو قضية اجتماعية تخصُّ الحكم المحلي بالدرجة الأولى الذي غيب نفسه عنها، إلا في حالة حدوث إشكاليات فيتدخل كطبيب الإسعاف الذي لا يملك سوى المهدئات، وبالدرجة الثانية كونها قضية بيئية تهدف للحفاظ على الموارد الطبيعية المحدودة. وهنا؛ فإنَّ المشرع وضع المسؤولية على عاتق وزارة الزراعة والثروة السمكية بموجب قانون تم تغييبه منذ أكثر من 13 سنة دون أي مبرر، إذ كان القانون يتعارض مع اختصاصات وصلاحيات مكتب وزير الدولة ومحافظ ظفار، مثلما يُشاع كان يفترض دراسة الأمر والخروج بتعديلات على هذا القانون أو حتى إلغائه، وهنا نتساءل: ما هو دور الغرفة التشريعية (مجلس الشورى) في هذا اللبس؟!
من إيجابيات القرار الأخير لوزارة البيئة والشؤون المناخية أنَّه فرضَ واقعا جديدا يحدد بموجبه تاريخ موحد لبدء موسم رعي الإبل، فقبل ذلك كان الأمر متروكا لكل نيابة على حدة، أو حتى لكل مجموعة من الملاك حسب ما يرون، وحدثت خلال السنوات الأخيرة مواجهات بين الرعاة، وتطور الأمر لأبعد من ذلك فصار من يتحكَّم بتحديد تاريخ بدء الرعي هو من يملك الأرض، وبهذه الطريقة انتقل الصراع من طريقة لإشباع بطون الإبل الجائعة إلى مُواجهات اجتماعية لم تحسم إلا عبر العُرف القبلي السائد في ظفار، بعد أن تراجعت جميع الحلول الأخرى. وهنا، نجد أنَّ القرار عبارة عن تدخل سريع لفرض نظام موحد لهذه الظاهرة الاجتماعية، وكان يجب أن تدعم السلطة المحلية المتمثلة في مكتب وزير الدولة ومحافظ ظفار هذا القرار؛ لأنه يجنب المكتب الكثير من الخلافات التي لا طائل منها.
كما أنَّ الامر ذو صلة مباشرة بالحفاظ على الأمن والسلم الاجتماعي؛ مما يعني تكاتف الأجهزة الأمنية والعسكرية والقضائية مع هذه الخطوة الشجاعة التي أقدمت عليها وزارة البيئة؛ من خلال الحرص على تنفيذها عبر إيجاد لجان تتكون من هذه المؤسسات ويترأسها الولاة أو نوابهم في المناطق المستهدفة بالرعي؛ فالكادر البشري لدي وزارة البيئة يستحيل عليه تسيير هذه العملية بمفرده. وبالرغم من الجهود الجبارة لمراقبي وإخصائي ومشرفي الحياة الفطرية هذا العام، حدثتْ انتهاكات مما وضع التجربة الوليدة في محك خطير.
وختاما.. نرفع القبعة لوزارة البيئة والشؤون المناخية، ولكافة موظفيها المنتشرين في المراعي والغابات؛ للحد من زحف آلالف الابل الجائعة وملاكها المنتشين بحب أصواتها التي ترددها الأودية والوهاد منذ عدة أزمنة غابرة. كما نرجو من مجلس الشورى أن يعيد النظر في قانون المراعي وإدارة الثروة الحيوانية المعلَّق منذ صدوره، وأن تُسهم السلطة المحلية في المحافظة بفاعلية لتوطيد العرف وحماية المجتمع من النزعات الانتهازية لبعض أفراده.
أستودعكم الله.. موعدنا يتجدد معكم بإذن الله، حفظ الله عُمان وحفظ جلالة السلطان.
alikafetan@gmail.com