سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (47)

حتمية التغيير

 

 

د. صالح الفهدي

 

عندما أوكَل أحد المسؤولين مُهمّة إحداث تغيير في المؤسسةِ التي يرأسها على عاتقِ بعض المسؤولين الكبارِ فيها، جاؤوه بعد فترةٍ وجيزةٍ ليقدّموا الاعتذار عن مواصلةِ المهمّةِ لأنهم ما استطاعوا أن يقودوا حركة التغيير لمواكبةِ العصرنة، لكنّه فاجأهم بحزمٍ في الموقفِ، وإصرارٍ في التكليفِ قائلاً: ذلكَ لم يكن خياراً أمامكم في التكليفِ منذ بدايتهِ، ولن يكن الآن كذلك، لهذا ليس بوسعكم أن تتخلّوا عن المسؤولية، لأنَّ التخلّي عنها يعني قضيّةً أشملَ تمسُّ ولاؤكم للمؤسسةِ ومصيركم فيها، فلا أجدُ لكم العذرَ في التنحّي، لهذا عليكم أن تعودوا وتواجهوا مسؤولية التغيير كما كلّفتم بها..!.

كان موقفُ المسؤول الأعلى صادماً لرؤساء لجانِ التغييرِ لكنّه أمرٌ لابد من تنفيذهِ، بصبرٍ أوسع وبعزمٍ أكبر هذه المرّة..!. وما هي إلاّ بضعةَ أشهرٍ حتى تحققت أهداف التغيير في تلك المؤسسة وعلى أيادي أُولئكَ الذين عزموا بتصميمٍ قاطعٍ على تركَ مسؤوليات لجان التغيير..!! لقد اكتشفوا هم ذاتهم إيجابية "فرض التغيير" على أنفسهم وعلى المؤسسة.

لا مندوحةَ إذن عن التغيير الحتمي للمجتمعاتِ والأوطان، لكن ذلك لن يتم إلاّ بتغيّر أو بتغيير الأفراد الذين هم نواة التغيير الحقيقية إذ إنه معروفٌ عن جملةِ البشرِ أنّهم مقاومون للتغيير، وأن مجرّد ذكرِ كلمة "تغيير" أمامهم يثير حفيظتهم، فيبدأ بعضهم برشقِ القائل بالتّهم التي تخلطُ بين منادٍ للتغيير الإيجابي ودعواتِ التغييرِ المبطّن بالغايات الخبيثة للانحدار الأخلاقي، والإنفلات القيمي..!! ففي إحدى المرّات ما كدتُ أطرحُ مقولةً في التغيير، حتى وردتني عبارةٌ مستفزّةٌ تصف المقولةَ بأنّها "حقٌّ يرادُ به باطل"..! دون تمحيصٍ للنوايا، ولا تدقيقٍ للاتجاهاتِ والمرامي..!

لهذا لزمَ الكثيرونَ الصمت مخافةَ التهم الجاهزة المعلّبة من لدن عشّاق "الوضع الراهن status quo" الذين نصّبوا أنفسهم حرّاساً أشدّاءَ على "مناديس الفضائلِ" أو "خزانات العادات والتقاليدِ" أو "قوالب الموروثات" وهم في الحقيقة معرقلونَ للنماءِ والتطور الذي هو سنّةُ الحياةِ، وديدنُ المعاشُ فيها..! يقول إلبرت إنشتاين في هذا الشأن:"قليل من الناس يمكنهم التعبير مع رباطة الجأش عن أفكارهم التي تختلف عن الأفكار المسبقة في بيئتهم الاجتماعية. معظم الناس، ليس بإمكانهم طرح مثل هذه الآراء".

أعجبتني كلمةً قالها Mukesh Ambani الذي يتصدرُ قائمة أغنياءِ الهند، حينما أتاح استخداماً مجانياً لخدمة الإنترنت لعامٍ كاملٍ لكلِّ شابٍ يُقدم على إنشاءِ مشروعهِ الخاص، قال: لن نترك الهند في الخلف We will not leave India behind" الأمر الذي يعني أنّ عدم إحداث التغيير، وعدم دعمه من قبل أبناءِ الوطن القادرين مالياً وعلمياً واجتماعياً سوف يؤخِّر من مكانة الهند في ركب التحضر الذي تقوده الدول المتقدمة، ويتركها تلهثُ متأخرةً وراءَ الدول التي تسيرُ بسرعةٍ هائلةٍ نحو التطور.

إن حاجتنا أولاً إلى تغيير البنية الفكرية للمجتمع هي الأهم، فتغيير الفكرِ هو أساسُ كل شيءٍ، إذ إن منشأ التغيير يعتمدُ على مدى درجة الفكر، وهذا لا يتم في أغلبهِ إلاّ بتغيير نوعية التعليم. هذا هو الذي غيّر دولة سنغافورة وجعل منها دولةً تنتقلُ من العالمِ الثالث إلى العالم الأول ومن مجرّد محطّةٍ عبورٍ مهملةٍ إلى دولةٍ عصريّةٍ ذات نظمٍ عالمية لا تضاهيها نظم دول معاصرة..!!. وفي هذا المسعى التطويري عبر القناة الأهم للتغيير وهي قناة التعليم فقد أضافت وزارة التربية والتعليم بدولة الإمارات العربية المتحدة ستة مناهج تتوائم مع لغة التغيير، والعصرنة هذا العام وهي التصميم والتكنولوجيا باللغة الإنجليزية من الرابع إلى التاسع، والإرشاد باللغة العربية للصف التاسع، والعلوم الصحية باللغة العربية من العاشر إلى الثاني عشر، ومهارات الحياة باللغة الإنجليزية من العاشر إلى الثاني عشر، والتصميم الإبداعي والابتكار باللغة الإنجليزية للعاشر والحادي عشر، وإدارة الأعمال باللغة الإنجليزية من العاشر إلى الثاني عشر.

لا يمكنُ استمرار أيّة دولةٍ في الجوانب التي تشهدُ تطويراً وتحديثاً في العالم بحجّة المحافظة، بأداءٍ لا تسرع وتيرته، ولا يتغير نمطه، ولا يتبدّل إنجازه، فهذه حجّةٌ بالية جلبت الوهن للدول، والتخلف للمجتمعات. لا يمكن إبقاء العقول الناشئة على درسٍ مكرورٍ لا يتغيّر، وفكرٍ تداولهُ الآباءُ والأجداد لم يتجدّد، ثم تطالبُ بالتجديد والابتكار..! لا يمكنُ إبقاءُ آليةِ إنجازِ عملٍ ما على نفس الوتيرةِ إلاّ إذا كانت تخدمُ ذات الغرضِ بكفاءةٍ عاليةٍ، ولا ضيرَ في ذلك فقد رأيتُ في مصنع لشركة BOH المنتجة للشاي بمرتفعات كاميرون بماليزيا الماكينات الأولى لتصنيع الشاي لازالت تعمل بكفاءةٍ منذ عام 1930..!! لكن من غير المستساغ بل غير المقبول أن يتوافر البديل الأفضل فكرياً ومادياً وخدمياً ونظل نتمسّك بالقديمِ دون مبرّر واقعي في مقياس الأفضلية والتنافسية..!.

لقد طرحَ أحد المسؤولين على مسؤوله الأعلى فكرةً عصريّةً تسهلّ للناس الإجراءات المتعلقة بالاستثمار، وإنجاز الأعمال من خلال أجهزة تثبَّت في أماكن التسوق وغيرها من الأماكن القريبة من متناول الناس فإذا بالمسؤول الأعلى يقفزُ من كرسيه غاضباً ومندداً بالفكرةِ لأنّها في نظره تمسُّ سمعة الأداء الحكومي، وتقلل من قيمتهِ المعنوية لدى المواطن..! هذا المسؤول الذي ثارَ على فكرة التغيير وعارضها بصلافةٍ وتبجّحٍ شديدين عاد ليُطبّقها بعد عدّة سنوات بنفس ما طرحت عليه..! لقد أضاعَ على البلادَ فرصاً للاستثمارِ، وتنشيطِ الأعمالِ، وتحفيز المشاريع بسببِ ضيقِ أفقهِ، ومحدوديةِ نظرهِ، وحدّة طبعه..!

ما لا يُدركه أو يفهمه المعارضون للتغيير أنّ الثقافة والحضارة مبنيان على التغيير القادر لوحده على تغيير الوضعيات إلى الأفضل. يقول الراحل علي عزّت ببجوفيتش:"الثقافة هي (الخلق المستمر للذات) أما الحضارة فهي (التغيير المستمر للعالم) وهذا هو تضاد الإنسانية والشيئية" لكن المفهوم السائد في بعض المجتمعات هو العكسُ من ذلك، إذ تتطور المادة في جمودٍ وسكونية من الفكر الإنساني فتتسع الفجوة التي يتعفّنُ فيها فكرُ الإنسان ويتبلّد إزاء التطور الهائل للعالم المادي، فيصبحُ جاهلاً بالمفهوم العصري للمعرفة، وتُدرجُ أوطانه تحت تصنيف "العالم الثالث" الذي يعاني من اضطرابات التغيير الحضاري..!

حينما نتحدثُ عن التغيير فإننا نعني المنظومة الفكرية للإنسان، وهذه ركيزة التغيير الثقافي والحضاري. نعني الإنطلاق نحو عالم المعرفة الذي انداحَ أمامنا بفضاءاته التي لا تحدّها الحدود متحرّرين من أفكارٍ نمطيةٍ، ومثبطاتٍ عقلية لم يعدُ لها من محلٍ في الزّمن الراهن، متمسكين مع ذلك بقيمنا العظيمة، وعقيدتنا السمحة، وخلائقنا الحميدة فهذه هي مؤسسات القاعدة الرصينة التي تساعدنا على إحداث تغييرات ذات وجهةٍ وأهدافٍ محدّدة.

ليس هناكَ من ثمّةِ قرارٍ إزاءَ التغيير الإيجابي هل هو واجبٌ أم لا؟ إنّما السؤال: متى يحين؟! هذا هو السؤال الذي يجب على كل إنسانٍ أن يواجهُ به نفسهُ كل صباح بل كل حين.